من الواضح أن المعركة التي تخاض من أجل تحرير الموصل قد تخرج/أو تكون قد خرجت بالفعل عن السيطرة والتحكم الأمريكي بمجرياتها على الأرض وهذا ربما ما يستدل عليه أولا من عدم انصياع الطرف العراقي لما قد صرح به قائد قوات التحالف الكولونيل جون دورين الأمريكي من توقف العمليات العسكرية لمدة يومين وذلك لإحكام السيطرة على المناطق التي حررت قبل مواصلة التوجه الى الموصل من قبل القوات العراقية بكل مكوناتها العسكرية. فقد واصلت القوات العراقية التقدم باتجاه الموصل وتحرير القرى والبلدات في طريقها دون مقاومة فعلية من قبل قوات داعش التي انسحبت من جميع المناطق المحيطة بمدينة الموصل. ولقد اتى هذا التصريح من قائد قوات التحالف التي "تشارك" في تحرير الموصل متزامنا مع تكليف قوات الحشد الشعبي بالتوجه لتحرير مدينة تلعفر العراقية من ايدي داعش. ولقد اتى هذا التكليف من قبل الرئيس العراقي العبادي والقائد العام للقوات المسلحة العراقية والذي يشرف على سير العمليات القتالية. ومدينة تلعفر هي المدينة التي تقع غرب مدينة الموصل وهي الجبهة التي تركت مفتوحة من قبل قوات التحالف على أمل ان تستخدم من قبل قوات داعش التي كان من المخطط لها أن تنسحب بالياتها وعتادها الى الأراضي السورية عبر هذه المدينة للوصول الى دير الزور ومن ثم الى الرقة.
وللتذكير فقط ان طائرات التحالف كانت قد قصفت مواقع للجيش العربي السوري في التلال المحيطة بالمطار العسكري لمدينة دير الزور وارتكبت قوات التحالف مجزرة كبيرة استشهد فيها ما يقارب من 90 عسكريا سوريا بالإضافة الى عشرات من الجرحى. وكان الهدف من هذا القصف المتعمد هو اعطاء الفرصة لعناصر داعش المتواجدة في المنطقة والتي تحاصر مدينة دير الزور بالانقضاض على وحدات الجيش العربي السوري والاستيلاء على المدينة والمطار، الى جانب افشال الاتفاق الأمريكي-الروسي بشأن ما سمي بوقف الاعمال العدائية والبدء في التنسيق الروسي الأمريكي بمحاربة داعش والنصرة بعد ان يتم التعهد الأمريكي بفصل ما سمي "بالمعارضة المعتدلة" عن هذه المجموعات الارهابية. أفشلت هذه الخطة واستطاع الجيش العربي السوري باستعادة السيطرة على التلال في غضون ساعات من القصف الأمريكي الذي تبعه مباشرة الهجوم من قبل مسلحي داعش في تلك المنطقة.
كانت الولايات المتحدة تسعى الى ان يتم السيطرة على مدينة الموصل بسهولة بالرغم من كل الضجيج بصعوبتها لان المقصود كان اخلاء المدينة من اعداد كبيرة من مقاتلي تنظيم داعش قبل وصول القوات العراقية اليها ودخولها دون قتال حقيقي، كما حصل في مدينة جرابلس عندما تقدم ما يسمى بالجيش الحر المدعوم من تركيا، عندها انسحب التنظيم من المدينة قبل وصول القوات التركية والجيش الحر اليها وذلك بالتنسيق والتفاهم بين داعش والمخابرات التركية. وعندما صرح أردوغان بان القوات التركية المتواجدة بشكل غير شرعي على الأراضي العراقية "ستحرر الموصل كما حررنا جرابلس" كان أغلب الظن يشيرعلى ان مسرحية جرابلس ستتكرر في الموصل. وحصل الى حد كبير سيناريو شبيه عند تحرير الفالوجة في العراق. ولكن الذي يبدو ان سيناريو تحرير الموصل قد يختلف اللهم الا إذا ما كانت الولايات المتحدة قد تمكنت من عملية تهريب اعداد كبيرة من داعش على دفعات وذلك قبل البدء بعملية تحرير الموصل بأسابيع. وكانت بعض الانباء قد تناقلت حول عبور ما يقارب من 300 سيارات دفع رباعي الحدود السورية ويعتقد أنها كانت تحمل قيادات صف أول من التنظيم. ولا شك أن الأيام القليلة القادمة ستظهر ما خفي وصحة ما قد يكون قد حدث.
أما الدلالة الثانية على أن الطرف الأمريكي قد فقد السيطرة والتحكم في معركة الموصل هو توجه قوات الحشد الشعبي لتحرير تلعفر من تنظيم داعش بناء على توجيهات الرئيس العبادي. وتصريح قائد قوات الحشد الشعبي قبل يومين فقط علنا من أن قواته ستعمل على ملاحقة عناصر داعش ومنعهم من الدخول الى الأراضي السورية، واستعداد قواته لملاحقتهم على الأرض السورية بالتنسيق مع الحكومة السورية وحتى المشاركة في تحرير الرقة من داعش لها دلالات كبيرة لأن الخطوات التي يتخذها الحشد ستسقط الرهانات الامريكية على استخدام الارهاب في تحقيق المآرب الامريكية. من هنا نستطيع ان نتفهم الإصرار الأمريكي منذ البداية على عدم مشاركة الحشد في تحرير الموصل وكذلك النعيق السعودي والتركي في نفس الاتجاه ومحاولات التحريض المذهبي والطائفي في العراق ، الى جانب محاولات تأخير الانطلاق في عملية التحرير على أمل ترتيب الأوضاع مسبقا بما يتلاءم ومصالحهم. ولقد ذهبت تركيا الى أبعد من ذلك وقامت بتهديد الحشد إذا ما توجه لتحرير تلعفر من تنظيم داعش وعلى أنها تشكل خطا أحمر لتركيا، فالسلطان العثماني الجديد يريد أن يعطي الانطباع بأنه يحكم العراق وبالتالي يستطيع تحريك الأوضاع به.
ومما لا شك فيه أيضا ان الإعلان الصارم لكل من سوريا وروسيا عن تدمير اية أرتال داعشية قادمة من الحدود العراقية هربا من معركة الموصل، وعلى أن طائرات الاستطلاع الروسية والسورية ستقوم بمراقبة الحدود العراقية-السورية، قد زاد من الارباك وخلط الأوراق لأمريكا ومزيد من فقدان السيطرة في تحديد مسار عملية تحرير الموصل. ليس هذا فحسب بل من الممكن ان تبدأ في مراجعة تصريحات وزير دفاعها كارتر والمتحدث الرسمي باسم الإدارة الامريكية وقائد عمليات التحالف من قضية "تحرير" الرقة.
هذا التكالب الأمريكي السعودي التركي يأتي لان هذا الثلاثي يرى وبوضوح الان تساقط الأوهام والخطط التي بناها على أمل السيطرة على حلب أو إقامة امارة أو كيان الذي من وظيفته أولا قطع التواصل الجغرافي بين إيران والعراق وسوريا ولبنان وبالتالي ضرب خط رئيسي واستراتيجي لمحور المقاومة وثانيا من امكانية تمرير الرقة بعد "تحريرها" من داعش الذي سيكون على استعداد لتمرير مفاتيح المدينة الى من تسميهم الولايات المتحدة "بالمعارضة المعتدلة" كخطوة على طريق تهديد وحدة أراضي الوطن السوري ومحاولة يائسة وبائسة لتغيير النظام في سوريا وهو الحلم الذي ما زال يراود الإدارة الامريكية وادواتها في المنطقة وخاصة هؤلاء الذين دفعوا عشرات المليارات لهذا الغرض دون أن يتحقق. وثالثا بالإضافة الى ما تقدم فان المتأمل أن هذا سيسمح للولايات المتحدة ببناء قاعدة داخل الأراضي السورية الممتدة بين العراق وسوريا وهو أحد الأهداف لتحقيق الاستراتيجية الامريكية في السيطرة على المنطقة ومقدراتها وتحجيم الدور الإيراني.
كثر الحديث مؤخرا عن التحضير لتحرير مدينة الرقة بعد تحرير الموصل، وعلى انها من المحتمل أن تبدأ في غضون أسابيع بحسب ما أعلنه وزير الدفاع الأمريكي. ليس هذا فحسب بل والاعلان من أن الإدارة الامريكية لا تمانع من مشاركة القوات التركية في هذه العملية. الذي يبدو أن الإدارة الامريكية قد تخلت عن قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية التي أوجدتها في أكتوبر 2015 بالأساس ودربتها وسلحتها والصقت كلمة الديمقراطية باسم المجموعة لتوظيفها في التوجه الى الرقة. وكذلك أيضا تم تخليها عن وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تركيا بأنها منظمة إرهابية وعلى علاقة وثيقة بحزب العمال الكردستاني في تركيا.
أمريكا تبحث عن قوات برية يمكن الاعتماد عليها لأنها على غير استعداد ان تقحم اعداد كبيرة من قواتها البرية وخاصة بعد الضربات والخسائر البشرية والمادية التي خبرها الجيش الأمريكي في حربه في أفغانستان والعراق. فالناخب الأمريكي أصبح لديه حساسية من التدخلات العسكرية المباشرة للجيش الامريكي التي أصبحت تثقل كاهل دافع الضرائب الأمريكي الذي يرى من الأجدى دفع مليارات الدولارات التي تصرف على الحروب الخارجية في الداخل الأمريكي على تحسين الخدمات الطبية والاجتماعية والتعليمية...الخ. وبالرغم من الاستعداد والحماس الذي أبداه أردوغان في المشاركة "بتحرير" الرقة من أيدي داعش، فإن الامر ليس بهذه السهولة لان ذلك يتضمن دخول وتوغل للجيش التركي الى مسافات كبيرة في الأراضي السورية وهو بحاجة الى تأمين غطاء جوي مستمر لقواته المتقدمة بالإضافة الى الدعم اللوجيستي وتأمين خطوط امداد طويلة لا يمكنه السيطرة عليها. هذا إذا ما استثنينا رد الفعل السوري وحلفاءه على الأرض والذين توعدوا بان أي توغل تركي في الأراضي السورية ستتحول هذه الأرض الى مقبرة للغزاة الاتراك.
هذه المؤشرات تدلل على أن قضية الصراخ بالتوجه الى الرقة لا يخرج البتة عن المهاترات الإعلامية والابتزاز السياسي. فالولايات المتحدة تدرك جيدا أن القصف الجوي مهما كان حجمه وكثافته لا يمكن أن يؤدي الى تحقيق مكاسب على الأرض، إذا لم تتواجد قوات عاملة على الارض حليفة لها 100% وتأتمر بإمرتها. ولغاية الان على الأقل فان الولايات المتحدة ليست بوارد أن ترسل قوات برية أمريكية الى سوريا بالحجم الذي سيكون له فعل على الأرض لان هذا يعني اعلان الحرب رسميا من قبل الولايات المتحدة على سوريا وهو بحاجة الى تفويض من الكونغرس الأمريكي الذي وضمن المرحلة الحالية وبناء على الخبرات السابقة وتعقيدات الوضع على الساحة السورية، وعدم ضمان نتيجة هذا التدخل، لا نعتقد انه سيوافق على ذلك حتى لو تواجدت النوايا والتمنيات النظرية عند البعض لذلك. فعل قول الشاعر "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن". تحرير الرقة يحتاج الى قوة حقيقية على الأرض تحارب الارهاب فعليا ولديها الإمكانيات والإرادة والمصلحة في استعادة الرقة. والقوة الوحيد المؤهلة الى ذلك هي الجيش العربي السوري وحلفاءه والولايات المتحدة بالطبع ليس في وارد التنسيق مع الدولة السورية وحكومتها وقيادتها الشرعية المنتخبة.
معركة تحرير الموصل وتغيير الحسابات
2016-11-02
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني