لليوم ربما السابع على التوالي تشهد العديد من المدن الرئيسية في العديد من الولايات الامريكية مظاهرات وحركات احتجاجية على فوز ترامب والذي لم يكن متوقعا بحسب كل استطلاعات الرأي الامريكية المرتبطة بالمؤسسة والنظام الأمريكي، والتي شكلت بالتزاوج مع الإمبراطورية الإعلامية، ووسائل الاعلام السائدة في أمريكا التي درجت على تصنيع وتشكيل الراي العام أو ما درج على تسميته بثقافة "القبول" من قبل المفكروالباحث الأمريكي تشومسكي، نقول شكلت هذه المنظومة بالإضافة الى شركات الطاقة العملاقة والمجمع الصناعي العسكري والبنتاغون والمخابرات المركزية الامريكية والمؤسسة العسكرية والاقتصادية جزء من الحملة الانتخابية للسيدة كلينتون المرشحة للرئاسة عن الحزب الديمقراطي. ولم تحاول منظومة هذه المؤسسات ان تخفي دعمها وتأييدها المطلق للسيدة كلينتون وعن ثقتها المطلقة والعمياء بفوزها. واعتبرت أن فرص نجاح غريمها معدومة وخاصة مع وقوف حزبه الجمهوري ضده وقيام العديد من الجمهوريين بالانضمام الى حملة كلينتون الانتخابية بشكل علني.
وبالتالي شكل نجاح ترامب الى سدة الرئاسة صدمة كبرى وكانت بمثابة زلزالا سياسيا ووصفه البعض بالكارثة والحلم المزعج او الكابوس...الخ تعبيرا عن حجم الصدمة التي أصابت المؤسسات الامريكية التي درجت على المجيء بمرشحها على مدى قرون من الزمن منذ تاريخ قيام الولايات المتحدة الامريكية. وما زال البعض يردد ويتساءل كيف حدث هذا؟ والمقصود ليس نجاح ترامب كشخص أو ما يمثله!!! وبغض النظر عن وجهة نظر المؤسسة به ولكن السؤال كان يعني كيف لمرشح يأتي من خارج المؤسسة الامريكية وبدون دعمها ومباركتها، له لا بل والعمل بشكل واضح وصريح ضد حملته الانتخابية، كيف يتسنى لهذا الشخص أن يفوز؟ ومن يراجع الصحف التي تدلل على من تؤيده المؤسسة الامريكية مثل نيويورك تايمز، والواشنطن بوست وول ستريت جورنال وغيرهم من وسائل اعلام المحافظين الجدد هذا بالإضافة الى المحطات التلفزيونية الكبرى تجد تهجما يوميا على ترامب وعلى فضائحه سواء الحقيقة أو المفبركة. ونحن هنا ليس في وارد ان ندافع عن هذه الشخصية ولكن ما نريد ان نؤكده هنا هو ان الفضائح المدعمة بالأدلة المادية للسيدة كلينتون والتي كان من الممكن أن تؤدي بها الى السجن في حالة اجراء محاكمتها قامت وسائل الاعلام هذه بإغفال كل هذه الحقائق الدامغة وغضت الطرف عنها لأنها ببساطة كانت القطة والبنت المدللة ومرشحة المؤسسة الامريكية للرئاسة. لا بل وذهبت الى أبعد من هذا باتهام روسيا والرئيس بوتين بالتحديد بالتدخل في الانتخابات الامريكية والقيام بالاختراق الاليكتروني لحملة كلينتون الانتخابية وذلك لتأليب الراي العام الأمريكي على ترامب لانه ذكر انه سيقوم بالتعاون مع روسيا في محاربة الارهاب، الى جانب صرف الناخب الأمريكي عن الاتهامات التي وجهت الى السيدة كلينتون.
لم تنتظر منظومة المؤسسة الامريكية ولو لبضع أيام أو ساعات لمعرفة حقيقة ترامب وماذا سيحمل بجعبته الى البيت الأبيض من مساعدين ومستشارين ووزراء لكي يكون لديهم الانطباع الى ما ستكون عليه ادارته. فكل هذا لم يدخل في حساباتهم وبدأت الحملة ضده بهدف تكبيل ادارته وعدم السماح له باستخدام سلطات الرئيس التي تزايدت وتنامت منذ عام 2001 بحجة محاربة الارهاب، الى جانب زعزعة ثقة الناخب الأمريكي الذي صوت له في الانتخابات الرئاسية وكذلك محاولة تأليب الرأي العام الأمريكي عليه وخاصة من اللذين لم يصوتوا له وذلك حتى قبل توليه منصب الرئاسة رسميا في شهر يناير من العام القادم.
وما شهدناه في الأيام القليلة السابقة من مظاهرات وحركات احتجاج والتي عمت أكثر من 200 مدينة رئيسية على امتداد الولايات المتحدة الا أول الغيث كما تشهد عليها هذه الحركات التي تتزايد حدتها وامتداداتها الجغرافية في الداخل الأمريكي. ويعتقد الكثيرون من أن الملياردير الأمريكي سورس الذي يشكل حجر زاوية أساسية في تحديد معالم الاقتصاد الأمريكي الى جانب منظومة العولمة والذي قام بتقديم الدعم السياسي والمالي للحملة الانتخابية لكلينتون هو من يقف وراء حركات الاحتجاج الذي اجتاحت العديد من المدن في الولايات المتحدة. ومن المعروف أن سورس هو الممول الرئيسي لحركة Moveon.org & 'Black Lives Matter" وهما من المجموعات السياسية الأساسية وراء التحركات والمظاهرات ولقد ارتبط اسم سورس بالعديد من "الثورات الملونة" وخاصة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة "فالثورات البرتقالية" التي حدثت عام 2004 وكذلك 2014 في أوكرانيا كانتا برعاية سورس الذي اغدق أموال طائلة بالتعاون مع المخابرات المركزية الامريكية ووزارة الخارجية ضمن برنامج "تغير الأنظمة" في الدول التي تبدي عدم الانصياع للهيمنة والسيطرة الامريكية. وعادة ما تأخذ وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بين العناصر الشابة خاصة الدور الأكبر في تحريك الشارع والمصادمات مع الشرطة واثارة الفوضى واستمرار هذه الحالة لعدة أيام على التوالي حتى تحقيق المبتغى في اسقاط النظام. ولقد اتبعت هذه التكتيكات من قبل أجهزة المخابرات الامريكية في العديد من البلدان مثل البرازيل ونيكاراكوا وتايلند وفي منطقتنا في تونس ومصر وليبيا وسوريا والعديد من دول أوروبا الشرقية وغيرها. ولقد تطورت حركة الاحتجاج الامريكية لتشمل جمع التواقيع على عريضة (نشرت على موقع Change.org) من المواطنين الأمريكيين الذين يطالبون السلطات الامريكية بتغيير نتائج الانتخابات واجراء التغير في النظام الإنتخابي المعتمد وذلك قبل تولي ترامب الرئاسة بشكل رسمي.
أما البعض الاخر فهو ينادي بتوجيه تهمة بالتقصير أو حتى الخيانة لترامب وذلك لمنعه من الوصول الى البيت الأبيض. وذهب بعض المتخصصين !!!! في القانون (صحيفة الانديبندنت البريطانية 11 نوفمبر 2016) بالقول أن هنالك العديد من الأدلة الكافية لتوجيه تهمة الى ترامب بارتكاب جرائم ومنعه من الوصول الى البيت الأبيض. أما ما ارتكبته السيدة كلينتون من جرائم وسرقات ورشوات مقابل خدمات ونشر معلومات سرية في بريدها الاليكتروني ومحاولة محي العديد من الرسائل به فهذا يوضع تحت الطاولة واذا ما نشر فانه ينشر في الصفحات الداخلية للصحف حتى لا يرى. وسائل الاعلام الأوروبية الرسمية تشاطر أخواتها في أمريكا في الحملة ضد ترامب وتجعلها مادة دسمة لعرضها على قراءها . وطبعا تشارك في الحملة الدول الأوروبية أيضا مثل المانيا وفرنسا بالإضافة الى حلف الناتو. أما البيت الأبيض بإدارة أوباما ما زالت تعتبر للان أن ترامب غير مؤهل لتولي هذا المنصب وذلك لجهله بالعمل السياسي وأنه يشكل خطرا على الامن القومي الأمريكي. يا هل ترى هل كان ريغان المصاب بالزهايمر وشغل منصب الرئاسة لدورتين ضليع بالعمل السياسي؟
ويصرح الرئيس أوباما بخصوص المظاهرات والاحتجاجات بأنها ممارسة حق التعبير عن الرأي وهو تلميح واضح من أن إدارة أوباما تقود حركة "سلمية" من شأنها عدم السماح لترامب من تولي الرئاسة. وكان الرئيس أوباما قد أعلن قبل الانتخابات من انه سيهاجر الى كندا في حالة فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية وكذلك صرح الكثيرون من الطبقة السياسية الحاكمة. وذهبت بعض الولايات مثل ولاية كاليفورنيا بفكرة الانفصال عن الاتحاد الأمريكي الفيدرالي. ولقد قام ما يقرب من 3 ملايين ناخب أمريكي في التوقيع على العريضة لغاية الان.
المؤسسة والنظم والنخب الامريكية تقف ضد ترامب ليس فقط لأنه من خارجها أو بسبب فضائحه وتعامله الفظ مع النسوة وتصريحاته اللاذعة والمدانة على بعض مكونات المجتمع الأمريكي من أصول عربية مسلمة أو لاتينية أو افريقية وغيرها، بل لأنه كشف عورة وهشاشة المجتمع الأمريكي والانقسامات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية في هذا المجتمع الذي تم ترويضه وتدجينه ولعقود من السنين من خلال الإمبراطورية الإعلامية والمناهج المدرسية المسيطر عليها من "النخبة".
لا يغرنك الفوز الذي حققه أوباما الرجل من الأصول الافريقية ودخوله الى البيت "الأبيض" وبالمناسبة هل فكر أحدنا لماذا سمي بالبيت الأبيض؟ ولا يغرنك تطبيل وتزمير وسائل الاعلام الرسمية عندها بهذه المناسبة والحديث عن الانسجام الاجتماعي والطبقي وأن أمريكا هي أرض "الميعاد" الذي من الممكن أن يكون ابن الخادمة طبيبا أو مهندسا أو أنه يشغل مركزا حكوميا أو أكاديمي رفيعا ومرموقا أو حتى رئيسا "للدولة العظمى" في العالم. فالرئيس أوباما كان وما زال ابن المؤسسة الامريكية أو كما يقول الكاتب الفرنسي المشهور في كتابه "معذبو الأرض" انه "ابيض" بجلد أسود. ولا أعني ابيض هنا بالمعنى العرقي للكلمة بل أعني انه انسان تشرب ثقافة النظام والنخب الامريكية كما اتضح طيلة فترة رئاسته التي لم تكن الا امتدادا لسلفه الغير صالح مجرم الحرب بوش الابن. وحتى عندما أراد احداث تغيرات في النظام الصحي لصالح الفقراء والمهمشين تصدت له المؤسسة برمتها لكي تقول له بطريقة غير مباشرة يجب أن تدرك مكانك وحدودك. وعندما أوعز لوزير خارجيته بتوقيع الاتفاقية مع روسيا بشأن الأوضاع في سوري وخاصة في حلب في سبتمبر الماضي، لم ينتظر البنتاغون والنخب في مؤسسة العسكرية المرتبطة عضويا بالمجمع الصناعي العسكري ولو ساعات حتى قام بضرب مواقع الجيش السوري في محيط مطار دير الزور لإسقاط الاتفاقية التي انهارت كلية بعد هذا الحادث وانتصرت إرادة البنتاغون على ادارته. ولقد أدى هذا الى طرح سؤال من قبل العديد من المتابعين من الذي يحكم في أمريكا هل هو الرئيس أم البنتاغون؟ وهذا طرح ساذج ويدل على عدم فهم لطبيعة النظام الأمريكي ودور المؤسسة والنخب في التحكم بكل المفاصل الأساسية للسياسات الامريكية وخاصة السياسة الخارجية.
المؤسسة الامريكية تقف ضد ترامب لأنها استشفت أنه من الممكن ان ينكفىء الى الداخل الأمريكي ويهتم بتطوير الداخل وإيجاد فرص للعمل لجيش العاطلين عن العمل وتحسين الوضع الاقتصادي وعدم تبذير مئات المليارات في حروب خارجية فاشلة أرهقت كاهل الخزينة الامريكية ودافع الضرائب الأمريكي. كما رأت ومن خلال تصريحاته أنه من الممكن أن ينفتح على روسيا ويقلل من الاحتقان السياسي بين الولايات المتحدة وروسيا وهذا بالطبع لا يعجب سماسرة بيع الأسلحة والمجمع الصناعي العسكري وكل الصناعات الكبرى المرتبط به التي تعتاش على إراقة الدماء وتحطيم الدول وسرقة ونهب ثرواتها الطبيعية. نحن لا نقول انه سيقوم بما وعد به وخاصة مع البدء بتضييق الخناق على ادارته قبل الوصول الى البيت الأبيض ومطالبة حزبه الجمهوري بالاستعانة بصقور المحافظين الجدد الذين يأملون ان يتسلموا المناصب المؤثرة ليديروا دفة السياسة الامريكية.
المؤسسة الامريكية تقف ضد ترامب لأن الحملة الانتخابية للرئاسة والنتائج التي ترتبت عليها أوضحت للعديد من الدول وشعوب العالم قاطبة أن أمريكا ليست بتلك الدولة العظمى المنسجمة مع ذاتها وهي الصورة التي ارادت المؤسسة اعطاءها للعالم. وعلى أنها الدولة "الاستثنائية" التي تحج اليها الدول "لحل" مشاكلها الفكرة التي حاولت المؤسسة ترسيخها في اذهان الشعب الأمريكي وشعوب العالم هذه الاستثنائية التي سمعناها من السيدة مادلين أولبرايت عندما كانت وزيرة الخارجية الامريكية وسمعناها من كونداليزا رايس وجورج بوش الابن واوباما وغيرهم. الدولة "الاستثنائية" الان بحاجة الى المساعدة والإرشاد والنصح لتعديل وضعها الداخلي والكف عن سياساتها الخارجية العدوانية.
دولة "المؤسسات" على ما يبدو تستخدم المؤسسات لإحداث "ثورة ملونة" في الداخل الأمريكي على غرار ما قامت به في العديد من الدول لان الديمقراطية لها تعني وصول من يرتضي أن يكون خادما أمينا لهذه المؤسسة ويرعى مصالحها. والسؤال هل ستنجح "الثورة الملونة" هنا؟؟؟؟
هل نحن أمام "ثورة ملونة" في أمريكا؟؟؟؟
2016-11-18
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني