تبنى البرلمان الأوروبي قبل يوم قرارا بشأن مواجهة وسائل الاعلام الروسية متهما الشبكة الإعلامية أر تي ووكالة سبوتنيك الإخبارية بأنهما "الأكثر خطورة" وذهب القرار باتهام روسيا بالقيام " بالدعاية العدائية" وباعتبار أن "مواجهة روسيا تضاهي محاربة تنظيم داعش الإرهابي". وطالب القرار من دول الاتحاد الأوروبي تخصيص اعتمادات مالية أكثر للتصدي لوسائل الاعلام الروسية. وبالرغم من أن القرار غير ملزم لدول الاتحاد الأوروبي وأن عدد الأعضاء اللذين صوتوا لصالح القرار لم يتجاوز 304 نائب من 691 بينما وصل عدد النواب اللذين من صوتوا القرار 179 وامتناع 208 نائبا عن التصويت، مما يضعف من القرار الا أن تبني مثل هذا القرار من قبل البرلمان الأوروبي يدلل الى أي مدى ما زالت الولايات المتحدة الامريكية تهيمن على القرارات الأوروبية وتتحكم بمفاصل السياسة الخارجية للدول الأوروبية. ولم تكن مصادفة ان يكون القرار قد أعد من نائبة بولندية في البرلمان الأوروبي وهي المعروفة بشدة عداءها لفترة الاتحاد السوفياتي ولروسيا الاتحادية. وبولندا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة التي تستخدم الإدارة الامريكية وحلف الناتو أراضيها لنشر ما يسمى "قوات التدخل السريع" واستخدام أجواءها للتجسس على روسيا الاتحادية واستعراض عضلات الناتو العسكرية والعمل على محاصرة الأراضي الروسية تحت ذريعة مجابهة الخطر الروسي.
ومن يقرأ بين السطور يستطيع أن يستشف الايدي الامريكية في إعداد هذا القرار أو على أقل التقادير بان القرار يتبنى وجهة النظر الامريكية بالكامل. فقضية معاداة الأجهزة الإعلامية الروسية ومهاجمتها ومناصبة العداء لها كان قد صرح بها الرئيس أوباما والمتحدث الرسمي للبيت الأبيض وكذلك لوزارة الخارجية الامريكية مرارا. كان آخرها قبل عدة أيام عندما فقد السيد كيربي المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الامريكية أعصابه عندما وجه اليه سؤالا من قبل مراسلة قناة أر تي الروسية يخص ما صرح به في المؤتمر الصحفي بان سلاح الطيران الروسي استهدف خمسة مستشفيات في حلب الشرقية. كل ما طلبت منه الصحفية ان يدقق في المعلومات ويعطي مزيدا من المعلومات عن أسماء المستشفيات التي قصفت وعن مصدر هذه المعلومات لأنه لم يقدم اية معلومات بهذا الخصوص.
وهذه أسئلة يمكن أن تطرح من قبل أي صحفي يحترم مهنته والمصداقية في توخي الحقيقة والمعلومات المؤكدة لنشرها ولا يرى على نفسه أن يكون متلقي للخبر ونشره كما هو حال معظم الصحفيين هذه الأيام الذين لا يدققون في الخبر أو من يشكلون الابواق الإعلامية للأنظمة التي تدعي الديمقراطية واحترام حرية الراي والتعبير. السيد كيربي شعر بإحراج كبير لأنه لم يتوقع مثل هكذا سؤال الذي يمكن أن يكشف عورة الأكاذيب والفبركات الإعلامية التي كان يحاول تمريرها على مجموعة من الصحفيين الكتبة. السيد كيربي بدلا من الإجابة على السؤال فقد أعصابه ووجه كلامه لمراسلة القناة الروسية قائلا " هل أنت تعملين في قناة أر تي؟ ألا تريدين أن توجهي الأسئلة نفسها الى حكومتك؟ اسأليهم حول نشاطهم العسكري واطلبي منهم قائمة بالمستشفيات التي يستهدفونها؟"
الاتحاد الأوروبي غير معني بمعرفة الحقيقة ...الاتحاد الأوروبي معني بخنق الحقيقة والمعلومات الدقيقة النزيهة التي تعرضها كما هي ومن أرض الواقع....الاتحاد الأوروبي يريد حجب الحقائق عن الجمهور الأوروبي وتعريضه في المقابل بكل الفبركات الإعلامية والاكاذيب...الاتحاد الأوروبي لا يريد للجمهور الأوروبي أن يتعرض للرأي الاخر ويترك له الحرية في تقرير رأيه بناء على موازنة وجهات النظر المتضاربة والمتناقضة الاتحاد الأوروبي ومن خلال وسائل اعلامه وتصريحا الطبقة السياسية الحاكمة تريد ان تغلق أي بوابة إعلامية يصدر منها ما لا يتوافق مع خطابها السياسي وفبركاتها الإعلامية...الاتحاد الأوروبي الذي يدعي "الديمقراطية" و "حرية الرأي والتعبير" بعيدا كل البعد عن مفاهيم الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير فالديمقراطية لدى معظم الطبقة السياسية هي من نوع "من ليس معنا فهو ضدنا" التعبير الذي أطلقه بوش الابن ليرتكب المجازر في العراق وأفغانستان والتي اتبعت بالديمقراطي والحائز على جائزة نوبل للسلام السيد أوباما. الاتحاد الأوروبي يريد وسائل اعلام سائدة من لون واحد واتجاه واحد لتجذير حالة الجهل الإعلامي لرجل الشارع الأوروبي الذي يهمش بصورة تدريجية لإبقاءه خارج اطار العملية السياسية وشحنه باستمرار ضد روسيا الاتحادية وتصوير بوتين وكأنه يريد ابتلاع أوروبا...يريد الإبقاء على حالة الرعب لدى رجل الشارع الأوروبي للتمكن من السيطرة عليه وتوجيهه الى الجهة التي تقررها الطبقة السياسية الحاكمة وكبار المؤسسات المالية والصناعات العسكرية لتحقيق مزيد من الأرباح واسقاط اللوم على الاخرين للحالة الاقتصادية المزرية وتدني مستوى المعيشة في معظم بلدانه التي لم تستفيق بعد من الكارثة الاقتصادية وحالة الركود التي عمت معظم دوله والتي ما زالت بالرغم من حقن اقتصاديات بعضها مثل اليونان واسبانيا وإيطاليا وغيرها هذا اذا ما تناسينا الحالات الأكثر حدية في العديد من دول أوروبا الشرقية.
الاتحاد الأوروبي لا يخجل من الازدواجية في المعايير والمواقف المتناقضة التي يتخذها. الاتحاد الأوروبي الذي تبنى برلمانه القرار بالتصدي لوسائل الاعلام الروسية والعمل على تقويض أية نافذة لحرية الاعلام والرأي والتعبير وخنق هذه المنافذ في نفس الوقت الذي يتهم أردوغان بالديكتاتورية لإغلاقه الصوت المعارض بالصحف واعتقال الصحفيين الذين يعرضون من خلال كتاباتهم اراء معارضة لسياساته القمعية. والاتحاد الأوروبي يتهمه بانه غير ديمقراطي ويتمنع لادخال تركيا اردوغان الى الاتحاد الأوروبي الذي يناقش في هذه المرحلة تجميد النقاش في إمكانية ضم تركيا الى الاتحاد الأوروبي. ويصدرون البيانات التي تندد بالإجراءات التي اتخذها في إغلاق الصحف ووسائل الاعلام المناهضة لسياساته هذا في اللحظة التي يعمل الاتحاد الأوروبي على التضييق على وسائل الاعلام الروسية ويعد باتخاذ الإجراءات ضدها.
الا يخجل برلمان الاتحاد الأوروبي ونوابه وهم يرون أنهم قد أصبحوا في صف أكثر الدول المتخلفة في منطقتنا والتي صرفت مئات الملايين من أموال البترودولار في محاولة لإسكات الأصوات التي تنقل الصورة والمعلومات الموثقة عن حقيقة ما يدور في منطقتنا من إرهاب الت بدأت أوروبا تكتوي بناره. نواب الاتحاد الأوروبي الذين صوتوا لصالح القرار والذين امتنعوا عن التصويت نراهم اليوم يصطفون مع هذا التخلف الذي قام "بالتصدي" ومحاولة كم أفواه الفضائية السورية وقناة المنار اللبنانية وقناة المسيرة اليمنية وحرمانها مع الأقمار الاصطناعية التي كانت تستخدمها للبث الفضائي. الا تخجل الدول الأوروبية وهي دول عريقة وغنية بتجاربها لإحقاق الديمقراطية سابقا من أنفسها وترتضي لان تكون تابعا للولايات المتحدة وتتبنى مواقفها في فرض العقوبات (العدوان) الاقتصادي على روسيا والمشاركة في السياسة العدوانية لحلف الناتو بإقامة القواعد العسكرية على حدود روسيا وتهديد الامن والاستقرار الأوروبي على وجه التحديد. وكأن العدوان الاقتصادي والعسكري لا يكفي يقوم اليوم برلمان الاتحاد الأوروبي يتبني قرارا يقوم على اعلان الحرب على وسائل الاعلام الروسي لتكتمل حلقات العدوان على روسيا وتشعل ردود الفعل التي قد تحمل في ثناياها مزيد من عدم الاستقرار في الساحة الأوروبية والعالمية.
البعض من ضيقي الأفق قد يعزون ذلك الى الموقف الروسي ففي أوكرانيا أو على ما يدور في سوريا أو هنا وهناك، ولكن الامر أكبر من ذلك بكثير أنه محاولة أمريكية وأوروبية في محاولة أخيرة ربما لمنع انبثاق وميلاد عصر جديد تكسر فيه النظام العالمي أحادي القطب الذي تجلى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في مطلع تسعينات القرن المنصرم والذي صالت وجالت به الولايات المتحدة لتقوم بغزو البلدان وارتكاب المجازر والضرب بعرض الحائط بالقوانين والمواثيق والأعراف الدولية. ما يحدث الان هو جزء لا يتجزأ من هذا الصراع الدولي الذي تحاول به قوى الامبريالية العالمية شحذ كل امكانياتها وامكانيات ادواتها المادية والعسكرية والإعلامية في محاولة يائسة لمنع ميلاد النظام العالمي الجديد القائم على تعدد الأقطاب. هكذا يجب أن نفهم طبيعة وجوهر الصراع القائم في المنطقة وعلى مستوى العالم.
كم الافواه و"الديمقراطية الأوروبية"
2016-11-24
بقلم: الدكتور بهيج سكاكيني