مصر بين الحقائق "الجيوسياسية" والخيارات "البلوتوقراطية"، كان العنوان المقترح لهذا المقال، ولسنا من هواة استخدام المصطلحات العلمية والاكاديمية بكثرة، برغم ضرورة تضمينها وشرحها في بعض المقالات عملا بفضيلة التوعية واستفزاز قريحة البحث لدى القارئ.
الا ان التوجس بشدة من استخدام هذا العنوان -برغم قناعتنا بانه معبر بدقة عما نود قوله-خوفا من ان يفهم على انه مقال ثقيل، وحرصا على وصول الرسالة لجماهير المقاومة، فقد اخترنا عنوانا مباشرا يحقق ما ننشده من وصولها، لانها فيما نظن معبرة عن انصار المقاومة في مصر.
يبدو للعيان وكأن مصر حائرة مغلوبة على امرها ومكبلة الايدي ولا تستطيع حسم خياراتها.
ومصر بلا شك قبلة المقاومين الذين يتطلعون مع مطلع كل شمس ان تعود لسابق عهدها ملاذا وعونا للاحرار.
والسؤال، هل بالفعل مصر مكبلة الايدي؟ تريد ان تعود قاطرة للمقاومة ولا تستطيع بفعل ظروفها والضغوط الممارسة عليها؟
هل بالفعل ليس لدى الجماهير الصورة الكلية واسرار الكواليس والمعلومات الخفية التي تجبر مصر على الانخراط في معسكر متناقض مع تاريخها ؟
هل مصر مرغمة على عدم الالتحاق بمعسكر المقاومة برغم انها اقرب اليه بدليل انها ليست منخرطة في المؤامرة على سوريا ومتمايزة عن اطراف الخيانة العربية؟
كلها تساؤلات تجعل موقف جماهير المقاومة واحرار الامة من مصر مرتبك، فهو اقل من ناعت لها بالخيانة واكثر من لائم على مواقفها التي لا ترقى للمأمول منها.
فالموقف المصري بشكل اجمالي باهت لا هو مقاوم فيلتف حوله الاحرار لدعمه ولا هو خائن متآمر فتلتف حوله انظمة الخيانة لتوطيد اركانه ودعم انحرافه خشية الارتداد للطريق السياسي القويم.
ما يعنينا في هذا المقال ليس الادانة ولا الدفاع، وما يعنينا ايضا ليس النصح ولا الارشاد لنظام نرى انه يعرف طريقه ويختاره عن قناعة.
ما يعنينا هو محاولة التحليل لهذه المواقف الملتبسة الماسخة، لان حسم الموقف من مصر اما تحت قناعة المقاومة او تحت قناعة الخيانة سيترتب عليه تداعيات، وهذا الحسم بات قريبا لان الامور لن تسمح بالالعاب البهلوانية السياسية والملفات المؤجلة باتت اقرب من اي وقت مضى للحسم.
وبالتالي فان حسم الموقف الجماهيري من مصر ايا كان موقف مصر ينبغي ان يراعي العوامل والتحليلات والاعتبارات التي نحاول القاء الضوء عليها.
منذ ان صاغ العالم السويدي "كجلين" مصطلح الجيو سياسية (الجغرافيا السياسية) للدلالة على دراسة تأثير الجغرافيا على السياسة، وهناك التفات للمراقبين والمحللين الى الروابط والعلاقات السببية بين السلطة السياسية والحيز الجغرافي، وتطور ذلك الاهتمام الى الجيو استراتيجي في نطاق التحليل من جهة وفي نطاق وضع الاستراتيجيات والسياسات لدى صناع القرار من جهة اخرى.
الجيواستراتيجية لدى مصر تحتم عليها انها جزء من الوطن العربي وما يتفرع من استراتيجيات عسكرية او اقتصادية او سياسية او امنية لن تنفصل عن هذا المحيط الجيوسياسي.
ثمة ان عوامل اربكت هذه التقديرات والاستراتيجيات، على راسها وجود الكيان الصهيوني كقاطع للتواصل الجيوسياسي بين مصر ودول "الهلال الخصيب" ووجود انظمة عربية عميلة للاستعمار لا تختلف عن الكيان الصهيوني، وبالتالي فان العقيدة العسكرية للجيش المصري بنيت على ان العدو دائما يأتي من الشرق، وان تأمين الحدود المصرية تبدأ من جبال طوروس اقصى حدود سوريا والدفاع يكون من خارج الحدود.
هاتان القاعدتان لم تتغيرا وموجودتان داخل الاكاديميات العسكرية وينشأ عليها كل ضباط وافراد القوات المسلحة لانهما قاعدتان رئيسيتان من القواعد التي تبنى عليها نظرية الامن القومي او بالادق مستويان استراتيجيان في الهرم الاستراتيجي للامن القومي.
وحتى وبرغم معاهدة السلام فان العقيدة تنص على الالتزام بالمعاهدة ولكن مع الاستعداد التام لمواجهة اي خرق او عدوان اسرائيلي.
وبالتالي ان العدو المترسخ في العقيدة هو اسرائيل بلا منازع.
وهاتان القاعدتان هما حجرا عثرة امام كل من يحاول التفريط في الامن القومي، والمطلعون والمراقبون يعلمون جيدا الازمة التي حدثت في القوات المسلحة ابان عاصفة الصحراء وتدخل مصر في حرب ضد الجيش العراقي في تناقض صريح مع ما ترسخ في وجدان افراد زقيادات، ومدى الحسم الذي تعامل به مبارك وقتها ومرت الازمة سريعا دون حدوث ما لا يحمد عقباه واصبحت عبرة غير قابلة للتكرار والمغامرة.
ومن هنا فان مصر لا تملك التفريط في صميم امنها القومي، وما عجل بنهاية مرسى وحكم الاخوان هو هذا المساس المباشر بنظرية الامن القومي ناهيك عن ان شرعية النظام قائمة على محاربة الارهاب ولا تستطيع التحالف مع ارهابيين ضد الجيش السوري، ومن هنا فان الموقف من سوريا هو موقف اجباري على علاقة مباشرة بتماسك الجيش وبشرعية الحكم.
ولا يستطيع احد من الموالين للنظام بتمني انه نظام مقاوم ان يدعي انه موقف مبدئي، لان هذا المبدئية لا تتسق مع التحالف مع نظام ال سعود الممول لكل التنظيمات الارهابية والمدافع بشراسة حتى هذه اللحظة عن اسقاط النظام في سوريا وتسليم حكمها للقاعدة والدواعش، ولا تتسق المبدئية مع الاستمرار في الانتماء للتحالف السعودي صاحب جرائم الحرب في اليمن، ولا تتسق مع معاداة حلف المقاومة وقطع العلاقات مع ايران تحت حجج واهية وبمسميات مضحكة ابرزها امن الخليج، فماذا لو كان امن الخليج مناقض للامن القومي العربي، والادهى والامر ان التحالف مع الخليج ياتي بمسمى القومية العربية، في حين ان سياسات الخليج المسيطر عليها سعوديا تفعل كل ما لايمزق الوحدة العربية فقط بل يمزق الاقطار ويقسمها تحت نير الحروب الطائفية والمذهبية!
ومن هنا ننطلق الى الخيار بعد ان ناقشنا الاجبار، وفعليا وواقعيا نرى الخيار الاقتصادي هو المعبر والقائد للخيار السياسي في ان واحد.
فهو معبر عن خيارات سياسية مستسهلة لا تقوى ولا تنوي خوض اي معركة لاستقلال القرار حيث الانخراط (الآمن) في نظام العولمة والرأسمالية المنفلتة، لضمان الرضا الدولي، وهو ما قدمته جماعة الاخوان كمسوغات تعيين في النظام الدولي، وهو ما قدمه النظام الحالي ايضا لنزع ورقة التأييد الدولي للاخوان وربما المزايدة عليها باوراق اخرى مستحدثة نتلمس نذرها في سياسات دافئة مع الكيان الصهيوني.
كما ان هذا التوجه الاقتصادي قائد من الوجهة الاخرى لمزيد من سياسات التفريط، لانه خيار يستتبع نزع الشعبية ويستدعي القلاقل الاجتماعية والاعتراضات، وتداعيات ذلك القمعية والتي تستوجب الرضا والصمت الدولي، وهو لن يتوفر الا بالانتماء لمنظومة العولمة ورأسمالية الكوارث، وفقا لتوصيف الكاتبة الكندية البارعة ناعومي كلاين في كتابها الهام "مبدأ الصدمة وصعود رأسمالية الكوارث".
لن يبذل القارئ جهدا كبيرا حين يطلع على كتاب نعومي كلاين، وحين يقرأ مقال نعوم تشومسكي الخاص بالاستراتيجيات العشر لاخضاع الشعوب، لكي يندهش من التطبيق الحرفي لهذه السياسات دون حتى احترافية او ابداع.
مانود ان نقوله ان اي حاكم لمصر امامه توازنات خاصة بعقيدة جيش ووجدان شعب وشرعية حكم خيارات ذاتية.
وعقيدة الجيش المصري في مجمله لها سقف لايستطيع حاكم تجاوزه، وربما التجاوز الدراماتيكي للسادات كان في سكرة النصر والاساطير التي حيكت وقتها حول حنكته ودهائه وتشويه رفاق المعركة، الا انها غير قابلة للتكرار، مهما استخدمت عقيدة الصدمة وعظمت المعارك ضد الارهاب وصيغت التحديات باسلوب مجاف لواقعها.
كما ان الوجدان الشعبي لايمكن تجاوزه، وقد اثبتت حادثة التنازل عن جويرتي تيران وصنافير ذلك جيدا، وكذلك الانذار الشعبي الغير معلن بارسال قوات برية لليمن للاشتراك بالعدوان.
ايضا شرعية الحكم القائمة على محاربة الارهاب لا تستطيع التحالف معه في سوريا او العراق او ليبيا.
اما الخيارات الذاتية فهي الفاضحة والكاشفة لكون السياسات مبدئية ومعبرة عن تحولات جيو استراتيجية ام انها جبرية وخاضعة للتوازنات في الملفات المشتركة.
من هنا وبعض المقاومين يضعون عودة العلاقات المصرية الايرانية عنوانا للتحول الجيوستراتيجي، نود ان نقول لهم، ان ذلك ليس صحيحا!
حتى لو عادت العلاقات المصرية الايرانية وسط الخيارات الذاتية للنظام فانها ستكن اضطرارية برجماتية وليست معبرة عن التحول للمقاومة، لان قرار التحول للمقاومة يسبقه قرار التحول لخيار الاقتصاد المقاوم.
هي دعوة فقط لاعمال المبدئية لدى الجماهير، في تقييماتها، فلربما كان التناقض مع ايران ومخالفتها في بعض المواقف مثل دعمها او دفاعها عن الاخوان هو انحياز للمبدئية، وبالتالي ليس شرطا ان تكون مجرد عودة العلاقات معها –ان حدثت- هو رجوع للحق وللمبدئية.
هي دعوة للجميع لان يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.
رسالة من مصر الى جماهير المقاومة!!
2016-11-25
بقلم: ايهاب شوقي