بقلم: فاديا جبريل
م تكن رؤية القيادة السياسية في سورية لطبيعة الصراع الوجودي على منطقة الشرق الأوسط وبُعده الاستراتيجي إلا رؤية واضحة، تجلّت حقيقة راسخة في الحرب الكبرى التي تجري اليوم على امتداد الجغرافيا السورية. فمنذ بداية خطة تفتيت الوطن العربي بشيفرتها "الربيع العربي"، كان المسار في جميع الأقطار العربية موحداً في نطاق "ثورات شعبية" على الطريقة الأوكرانية، مع استخدام للعنف الميليشاوي يقدّر حجم الحاجة له وفق بنية البلد المستهدف وقوته أو ضعفه.
وكما بات معروفاً فإن ليبيا أُسقطت باستخدام "القوة الثانوية"، بالإضافة إلى "القاعدة" وأذرعها السياسية والإعلامية، بينما لم يستدعِ وضع تونس الهشّ التدخل المفرط، كذلك الحال في مصر، حيث بدأ العنف "المحدود" بمواجهات مع الشرطة وسعي حثيث لتحييد للجيش، وفق اتفاق يقضي بوصول الإخوان المسلمين لسدة الرئاسة، وليتكشّف في ذلك الوقت الدور التركي الكبير الساعي إلى إعادة هيكلة الأنظمة العربية، وترتيبها على شكل ولون واحد قوامه "الإسلام السياسي" الذي سيتوّج أردوغان سلطاناً وولياً لأمر المسلمين!.
على أن اللافت في الأمر أن القاسم المشترك بين تلك الدول هو عجز قياداتها عن فهم ما يجري ولماذا وما هي أهدافه المضمرة؟، وهذا ما رشحتْ عنه مضامين خطابات رؤسائها.. غموض وفوضى وارتباك أفرز عجزاً دفع بهم لتسليم مفاتيح عواصمهم للأمريكي والإسرائيلي وبسرعة غير متوقعة.
أما بالنسبة لسورية فقد كانت الرؤية واضحة، تؤكد أن ما يجري على امتداد الجغرافيا السورية ما هو إلا حلقة من حلقات الاستهداف للدور السوري في مواجهة مشاريع الهيمنة الاستعمارية، ونحن الذين لم نساوم على احتلال العراق ولم نتخلَ عن حزب الله والقضية الفلسطينية ولا حتى عن ثوابتنا ومبادئنا القومية المضمخة بتضحيات شهدائنا ودمائهم الزكية، وجميعنا يذكر رسالة السيد الرئيس بشار الأسد للجيش بعيده في الأول من آب إبان حرب تموز، حيث دعا الجيش السوري للاستعداد للقيام بواجبه الوطني والقومي، فكانت هزيمة إسرائيل وحلفائها في المنطقة بالمواجهة المباشرة، ما دعا هذه القوى المهزومة للتفكير بمواجهة هذا الثقل السوري بطريقة غير مباشرة، ليأتي دور الإخوان المسلمين عبر مخطط "الضرب من الداخل" بلعبة "الحرية والثورة والثوار"، رافعة شعار "يا ناتو لعنا يا ناتو"، إذ استقدموا لهذا الغرض مرتزقة "القاعدة" جيش أمريكا الرسمي، ومن مختلف بقاع الأرض، تحت مسميات مختلفة "جبهة النصرة" و"داعش" و"جيش الإسلام"، ولا ننسى "كتيبة السلطان مراد" و"كتيبة الملك عبد الله".. إلى آخر الجماعات الإرهابية والعصابات التكفيرية التي تقنّعت بالدين، لتحارب بالوكالة عن مشغليها من مأجوري واشنطن وتل أبيب، وهو ما اعترف به وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، الذي أكد أن مخابرات تلك البلدان وكواليسها السرية والعلنية أنفقت مليارات الدولارات لتدمير سورية، كما دمرت قبلها بعض البلدان العربية.
غير أن الردّ السوري كان غير متوقع لأولئك الواهمين، فكانت عناوين المعركة مع هذه القوى واضحة، معلنةً التمسك بالسيادة على كامل التراب السوري، والدفاع ببسالة عن القرى والبلدات والمدن وصولاً إلى الحدود المترامية، وخوض المواجهة حتى النصر بقوة وعزيمة القيادة السياسية المتسلحة بتحالفات نسجتها بعناية بالغة، وفق قراءة دقيقة لمجريات الأحداث التي شهدتها المنطقة، وأثمرت تطهير حلب ودير الزور وتدمر من الإرهابيين التكفيريين، والبدء بمعركة تأمين العاصمة دمشق من إرهابيي الغوطة الشرقية في سياق ترجمة الوعد الذي عاهد به الرئيس الأسد السوريين في استعادة السيطرة على كل شبر من تراب الوطن السوري الطاهر.
إن فهم طبيعة الصراع الوجودي على المنطقة، واستيعاب أهداف الحرب التي تدخل هذه الأيام عامها الثامن، وتضافر الوحدة الوطنية بين القيادة والجيش والشعب، ومتانة التحالفات التي بنيناها على مدار عشرات السنوات، والنهج الوطني والقومي الثابت، كانت من أهم عوامل الانتصارات التي تحققها قواتنا المسلحة اليوم في تأمين محيط العاصمة دمشق، ومواصلة تطهير باقي البؤر الإرهابية في أرياف إدلب وحلب ودرعا، وتأكيداً ثابتاً بأن سورية العصيّة على الانكسار والتفتيت كانت وما زالت وستبقى تقرن أقوالها بالأفعال.