بقلم: اللواء محمود عبد المقصود
دعت واشنطن يوم 13/3/2018 لعقد مؤتمر لبحث الوضع الإنساني في قطاع غزة بهدف إيجاد حلول حقيقية لمشكلات غزة وبحث فرص تطوير اقتصاد القطاع وتحسين ظروف الحياة فيه لمواجهة الأزمة الإنسانية في غزة، وبما يتناغم مع سياسة إسرائيل في خلط الأوراق ومحاولة تضليل الرأي العام الدولي والتغطية على المشكلة الرئيسية وهي الاحتلال الإسرائيلي وما يجري في القدس والضفة من استيطان وتهويد، وقد أدركت منظمة التحرير الفلسطينية خطورة وأهداف الدعوة الأمريكية ولذا قررت مقاطعة المؤتمر والتنديد به، لاسيما أنه يتزامن مع استعداد إدارة ترامب لعرض صفقة القرن التي تولي اهتماماً خاصاً بقطاع غزة، و تتمحور ملامحها حول إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ذات حدود مؤقتة بالضفة الغربية في منطقتي (أ) و(ب) وقطاع غزة، وإقامة عاصمة لها في منطقة القدس، وضم 10 - 15 % من الضفة الغربية لإسرائيل، ونشر قوات إسرائيلية في غور الأردن، مع استبقاء جميع القضايا المتعلقة بالأمن في أيدي إسرائيل، وقصر حل قضية اللاجئين على حدود الدولة الفلسطينية أو بقائهم فى الدول المقيمين بها مع تقديم تعويضات لهم، مع الإبقاء على المستوطنات الكبرى فى مكانها مقابل نقل بعض المستوطنات الصغيرة، وذلك فى مقابل منح السلطة صلاحيات أمنية وإدارية إضافية. ومن الغريب أن تخرج علينا الصحافة الإسرائيلية وبعض المواقع الإلكترونية العربية المشبوهة بتسريبات لتصورات عن معالم صفقة القرن المزعومة وتدعى أن مصر قامت بتوسيع المنطقة الحدودية العازلة بينها وبين جنوب القطاع تمهيداً للتنازل عن جزء من أراضيها لمصلحة دولة فلسطين بناءً على تلك الصفقة التى سيتم الإعلان عنها بمؤتمر في القاهرة، وهو مايأتى في إطار حرب المعلومات الموجهة لمصر، والدعاية المضللة التى لايمكن أن تقبل بها مصر أو يقبل بها الفلسطينيون، والهدف الوحيد منها هو إثارة الرأي العام الداخلي في مصر خلال مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها الأسبوع المقبل، في نفس الوقت الذى وجه فيه أحد المسئولين الفلسطينيين انتقاداً للسياسة الخارجية لمصر بدعوى مشاركة مصر في حصار الفلسطينيين والتمييز في معاملتهم، في محاولة منه للمزايدة على موقف القيادة الفلسطينية أملاً في تحقيق مكسب سياسى داخلى والمنافسة على خلافة الرئيس الفلسطينى.
والحقيقة أن مصر لاتهتم بالرد على تلك المهاترات، فمواقف مصر معروفة وثابتة وموثقة بسياستها الخارجية، وكانت عبر التاريخ الداعم لكل الثورات العربية، والمساند للأنظمة القومية بالعراق وسوريا، كما كانت الحاضنة والداعمة والمساندة لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطينى، وهى لاتقبل بالتدخل بشئونها والعبث بأمنها، ومحاولة تحقيق بعض المدّعين مصالحهم الذاتية على حساب مصر وأمنها القومي، كما أنها تعرف حدود المقبول والمرفوض، مع إدراكها أهمية عامل الوقت الذى لايعمل لمصلحة الفلسطينيين، وعدم القبول بإضاعة المزيد من فرص حل القضية التى تعتبرها قضية أمن قومي تحتاج إلى الحكمة والعمل بإخلاص.
بداية أود أن أؤكد أن الإدارة الأمريكية ومراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة وإسرائيل يدركون حقيقة أن ما يجرى تجهيزه فى المطبخ السياسى الأمريكى، لاعلاقة له بحل الصراع أو حتى تسويته، بقدر ما له علاقة باستثمار لحظة ضعف تاريخية للطرف العربى والفلسطينى على حد السواء، ولذلك فقد سعى أعضاء لجنة المتابعة العربية خلال اجتماعهم بنظرائهم الأوروبيين في حضور ممثلة الشئون الخارجية الأوروبية لطلب تدخل الاتحاد الأوروبي لدى الرئيس الأمريكى لإقناعه بإجراء تعديلات على خطته للسلام، تحسباً من صعوبة التراجع عنها أو تعديل بعض بنودها بعد إعلانها، في ظل قناعة اللجنة بأن الطاقم المعنى بالملف الفلسطيني /الإسرائيلي يتبنى مواقف منحازة بشكل كامل لوجهة النظر الإسرائيلية، والدليل على ذلك اعتراض السفير الأمريكي في إسرائيل "ديفيد فريدمان" على توصيف الضفة الغربية بانها أراضي محتلة، ومواصلة تعريف منظمة التحرير الفلسطينية كمنظمة إرهابية، والتهديد بإغلاق مكاتبها في واشنطن وخفض المساعدات المالية سواء للفلسطينيين أو لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، لاسيما أن قرار إدارة ترامب اختيار 14 مايو الذي يصادف الذكرى السبعين لنكبة شعب فلسطين موعداً لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، بما يشكل استفزازاً لمشاعر ملايين العرب المسلمين والمسيحيين.
ورغم مايثار بشأن اعتزام الإدارة الأمريكية إطلاق مبادرتها للتسوية خلال الشهور القادمة، فإن هناك بعض التعقيدات التى تواجه ذلك، ولعل أهمها الرفض الفلسطينى الواضح للخطة الأمريكية التى لاتلبى الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وكذا تدهور الوضع السياسى الداخلى فى إسرائيل، الذى دفع رئيس الوزراء «بنيامين نيتانياهو» الذى يواجه اتهامات بالفساد، إلى تجاوز الخلافات بين الأحزاب اليمينية والدينية فى الائتلاف لما بعد انتهاء إجازة الكنيست التى بدأت أمس، في ظل صعوبة حشده تأييد 61 عضواً لحل الكنيست والدع/ة لإجراء انتخابات مبكرة لمحاولة الفوز بولاية شعبية ودعم موقفه، ومن ثم استبعاد تقديمه أى تنازلات للفلسطينيين للحيلولة دون تأثر شعبيته داخل أوساط قاعدته اليمينية، لاسيما مع تنامى قوة الأحزاب اليمينية والدينية، فضلاً عن إقالة وزير الخارجية الأمريكي «ريكس تيلرسون» من منصبه يوم 14/3/2018، وتسليم حقيبة الخارجية لرئيس المخابرات «مايك بومبيو» الذى يعد من أكثر الداعمين لإسرائيل.
في ضوء ماسبق يتضح أن المساعى الصهيونية لفرض صفقة «ترامب» على الأطراف المعنية يعد هروباً لنيتانياهو للأمام يستهدف بالأساس إبراز رفض القيادة الفلسطينيية للمبادرة الأمريكية للسلام، وتوظيف ذلك للتنصل من متطلبات عملية السلام وتفريغها من مضمونها، وبما يتطلب استثمار الفترة المقبلة لتكثيف الجهود الفلسطينية والعربية لصياغة إستراتيجية موحدة ترتكز على سرعة انجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، خاصة بعد محاولة نسفها بقنبلة استهدفت رئيس الوزراء الفلسطينى «رامى الحمد الله» في شمال قطاع غزة، وبناء برنامج سياسي شامل للمواجهة مع إسرائيل، مع تجنيد وسائل الإعلام العربية والإسلامية والدولية لتكون جزءا من آلة فضح الممارسات الإسرائيلية ولتكون عامل ضغط على شعوب وحكومات العالم للوقوف أمام مسئولياتهم.
(الاهرام المصرية)