بقلم: جعفر البكلي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامِنا، وفي يَمَنِنا». قالوا: «وفي نَجْدِنا؟». قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا». قالوا: «وفي نجدنا؟». قال: «هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان».
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791) يرى نفسه حاملاً لرسالة عظيمة من الله، قوامها محاربة الشرك والبدع. فقد وجد الرجل أنّ العباد أشركوا بالله، ورجعوا إلى عبادة الأوثان والأحجار والقبور، وابتدعوا أرباباً يتضرّعون لها. وأخذ ابن عبد الوهاب يكتب رسائل، ويرسلها إلى ملوك الأمصار وأمرائهم وشيوخهم، على طريقة ما كان يصنعه النبي محمد، ويدعوهم إلى أن يسلموا ويتركوا ما هم فيه من الضلال، وأن يؤمنوا بالله الواحد، ويتبعوا سنّة نبيه، وأن يتخذوه إماماً لهم، ووليّاً وهادياً. واستبدّ به هذا الهوس حتى اعتقد أنه المبعوث لهداية البشر، وتخليصهم مما هم عليه من الكفر. بل إنّ الرجل في تقمصه لشخصية «الرسول» صار يصنع أموراً لافتة. ففي السنوات الأولى لدعوته، جعل محمد بن عبد الوهاب من قرية العُيينة (مسقط رأسه) مركزاً لنشر تعاليمه. لكنّ «الإمام» لم يلق فيها آذاناً كثيرة صاغية، فاضطر، في سنة 1744، أن يهاجر بدينه إلى الدرعية التي يتزعّمها آنذاك ابن سعود. وأبرم الشيخ، في دار الهجرة، ميثاقاً مع محمد بن سعود، وبموجبه اقتسما أطراف الولاية: للشيخ ونسله السلطة الروحية، وللأمير ونسله السلطة الزمنية. ووجد الشيخ في أهل الدرعية «أنصاراً». ثم التحق به في «المدينة الجديدة» أتباعه القدامى، فسمّاهم «المهاجرين». وأطلق ابن عبد الوهاب على جماعته ألقاباً، وأسبغ عليهم صفات، فهم «المسلمون»، وهم «أهل التوحيد»، وهم «الفرقة الناجية في أهل السنّة والجماعة». ثم قسّم الرجل كل من لم يلتحقوا بدعوته، وأنزلهم ثلاثة منازل. فالصنف الأول هم «الكفار»، وأولئك يندرج ضمنهم كل الذين لم يعتقدوا بدين الإسلام. والصنف الثاني هم «المشركون»، وأولئك عامة المسلمين «الذين يشهدون أنه لا إله إلا الله، لكنهم لا يعملون بها لجهالةٍ، أو لاتباعهم الضلالة»، ويدخل في هذا الباب (الشرك بالله) كلّ من اتّبع مذهب الأشاعرة، أو التصوف، أو التشيّع، أو الاعتزال... وأمّا الصنف الأخير فهم «المنافقون»، وأولئك قوم عرفوا «الدين الحق»، لكنهم أنكروه كِبراً وعناداً (1). وبعد أن صنف الشيخ الناس، وقسّمهم، وأنزلهم منازلهم، أفرغ نفسه لمعالجة قضية رب الناس، فجعل يبحث في صفات الله وأسمائه وكنهه، ويفسّر ما ورد في القرآن حول يده ويمينه وقبضته. وهداه تفكيره (وقراءته في كتب ابن تيمية) إلى أن للّه ذاتاً مادية، ولكنّ ذاته لا تشبه ذوات خلقه. وأن ما ورد في الآيات القرآنية عن يدي الله المبسوطتين، إنما يقصد بها الحقيقة لا المجاز. وختم ابن عبد الوهاب تأويله في تجسيم الله بقوله في رسالة بعثها لأهل القصيم «فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرّف الكلم عن مواضعه». ولقد يكون رأي الشيخ في صفات الله مسألة نظرية تندرج ضمن ما يسميه المسلمون علم الكلام، لكنّ المشكلة أنّ الرجل اعتبر تصوراته اللاهوتية هذه جزءاً من العقيدة التي لا يجوز الاختلاف حولها، وأن من ينكر تلك المعتقدات التي تجعل لله جسماً وشكلاً، يكون كافراً، وخارجاً عن عقيدة الإسلام، وتجب محاربته وقتله!
بعد أن بنى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تصوره الثيولوجي لصفات الله، وشروط الإيمان، وأسس العقيدة، انبرى إلى إحياء سنّة «الجهاد». فمضى، ومن ورائه أتباعه، يثخنون في الأرض، ليقيموا أسس الدولة الإسلامية، كما تصوّروها. وكانت الغاية من إنشاء هذه «الدولة» هي «مقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله». فالناس، كما قال محمد بن عبد الوهاب، «ليسوا على شيء، منذ ستمئة عام». ولقد آن الأوان لإجبارهم على أن يؤمنوا بالإسلام الصحيح ويدخلوا فيه أفواجاً، ولو كان ذلك بحد السيف. وخلال عشرين عاماً، شن جنود «الإمام» أكثر من ثلاثمئة «غزوة» ضدّ من سمّوهم «مشركي الجزيرة العربية». أي إنّ الرجل و«صحابته» غزوا الناس بمعدل خمس عشرة غزوة، في كل عام. ولم تكن معظم تلك «الغزوات» إلاّ غارات، تشنّ على طريقة بدو نجد، ويراد بها النهب والسلب. لكنها تلبّست، عند الوهابيين، بمسحة دينية، وأدلة شرعية تبرّر لهم قتل العباد، والسطو على أرزاقهم، وترويع عيالهم، وسبي نسائهم. وفصّل مؤرّخ الوهابيين عثمان بن بشر، في الجزء الأول من كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد»، أحداث تلك السنوات، وما جرى فيها من الغزوات. ويمكن للمرء أن يستخلص، من قراءة هذا الكتاب، مجموعة من النتائج، فالضحايا، في حروب الوهابي، يقدّرون بعشرات الألوف. والمهجّرون من ديارهم يناهز عددهم نصف سكان نجد (وسط الجزيرة العربية)، واليمامة (جنوب نجد)، والبحرين (ساحل الخليج العربي). وفي زمن لاحق بعد موت الشيخ، امتدت سياسة التهجير والتقتيل إلى أهالي الحجاز، وتهامة (ساحل البحر الأحمر) واليمن، والعراق، وعمان، وأطراف الشام. وأمّا التبرير الوهابي الجاهز لكل تلك الجرائم، فهو حديث منسوب إلى النبي، يقول فيه «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».
«أجداد الدواعش»
اختزل الوهابيون دينهم، في تسوية القبور بالأرض، وهدم مقامات الصالحين وقباب الأولياء التي بناها الناس تكريماً لقدرهم، وتخليداً لذكرهم. وما زال تهديم الآثار وإبادة التراث المعماري والحضاري سنّة دارجة عند الوهابيين، وسمْتاً، وأمارةً على مرورهم في الأزمان والبلدان. ولم يسلم ضريح في أرض استولوا عليها من تخريبهم، بل إنهم كانوا يدقّون الطبول، ويهزجون بالأناشيد، وهم يدمرون آثار المسلمين في مكة والمدينة. غير أنهم لم يقدروا على هدم حجرة النبي، وتسوية قبره، وتحطيم القبة المقامة فوق مرقده، تنفيذاً لوصية شيخهم ابن عبد الوهاب (2). ولقد حاولوا حين احتلوا المدينة المنوّرة، أوّل مرّة في شهر آذار 1803، أن يخرّبوا القبة الخضراء، لكنهم رأوا من هياج المسلمين على تطاولهم وجرأتهم على الحضرة النبوية، ما جعلهم ينكصون على أعقابهم، ويُحجمون (2). على أنّ محاذرتهمّ من عواقب هدم مقام النبي محمد، لم يردعهم عن السطو على ما في حجرته، ونهب النفائس التي أبقاها المسلمون قروناً في جواره. ومن بين ما سرقه الوهابيون تاج كسرى أنو شروان، الذي غنمه المسلمون لمّا فتحوا المدائن، وسيف هارون الرشيد، وعقد كان لزبيدة زوجته، وتحف فريدة أرسلها سلاطين الهند لتزيّن مقام الحضرة النبوية. ومن سوء الحظ أنّ تلك التحف التاريخية النفيسة اندثرت، بعد أن وضع الوهابي يده عليها، فلم يعرف لها، إلى اليوم، أثر.
بيد أنّ ما نال قبر النبي محمد (ص) من التدنيس على أيدي الوهابيين، لا يقارن بما أصاب مرقد سبطه الحسين بن علي، في كربلاء. فقد جهّز سعود بن عبد العزيز (جدّ آل سعود الكبير) جيشاً من ستمئة هجّان، وأربعمئة فارس، ثمّ هجم بهم على المدينة الوادعة التي ارتحل عنها معظم أهلها، في يوم 18 ذي الحجة 1216هـ (22 نيسان 1802م). وكان ذلك اليوم هو ذكرى عيد الغدير الذي يقوم فيه شيعة علي بن أبي طالب بزيارة مرقده في النجف الأشرف، والتسليم عليه. واهتبل الوهابي تلك الفرصة ليغزو كربلاء، في غياب معظم أهلها، ويقتّل من بقي منهم في المدينة المقدّسة. وربط ابن سعود خيله في الصحن الحسيني، وأمر أتباعه بدق القهوة في أروقة المقام. وكان ذلك شاهداً مكرّراً للضغينة التي يتوارثها أولئك القوم في صدورهم، وللعداوة التي ناصبت كل من يمتّ بصلة إلى النبي وآله. ثم لم يلبث الوهابيون حتى شرعوا يخربون كل ما تصل إليه أيديهم في مشهد الإمام الحسين، فاقتلعوا السياج البديع الذي يحف بالضريح، ودمّروا المرايا الجسيمة من حوله، ونهبوا النفائس والتحف والسجاد، وكل ما يزيّن المرقد الشريف، وهشموا الثريات الكبيرة، والأبواب المعشقة، وكسروا القضبان المعدنية في الشبابيك، وتطاولوا إلى زخارف الجدران يحطمونها، واقتلعوا الذهب المزين للسقوف، وأرادوا أن يخلعوا صفائح قبة المشهد الحسيني، ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك لاستحكامها ومتانتها، وارتدّوا على القبّة يخربونها. ثم مضوا إلى الضريح نفسه لينقبوه ويحاولوا نبشه، واقتلعوا شباك القبر من مكانه، وحملوه في جملة ما سلبوا، وخلعوا باب خزانة المشهد حيث تتجمع التحف الثمينة المهداة إلى الروضة، منذ مئات السنين، فسرقوا كل ما فيها من ذخائر جليلة.