مع حلول الذكرى الرابعة عشر لرحيل القائد الرمز ياسر عرفات وجدتني مدفوعا بقوة للتفكير فيما سأكتبه هذه المرة، في ظل حالة فلسطينية متردية، وأخطار محدقة تكاد ان تعصف بالمشروع الوطني الفلسطيني، والذي كان ياسر عرفات قائدا لمسيرته النضالية لسنوات طويلة استطاع خلالها ان يخرج الشعب الفلسطيني من اللجوء والضياع والنظر اليها كقضية إنسانية، وتحويلها لتصبح قضية نضالية فرضت نفسها على العالم اجمع، قضية شعب يناضل من اجل الحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
ولكنني في هذه المرة وجدت سؤالا كان يطرح نفسه امامي بقوة، كلما تنقلت مع القائد الرمز ابو عمار لسنوات طويلة، الذي كنت ملاصقا له في تحركاته، التي كان يجوب فيها العالم ، بحثا عن حق الشعب الفلسطيني، كنت اشاهده كيف يتعامل مع الرؤساء والملوك وزعماء دول العالم ، كما كنت اشاهده كيف يتعامل مع قيادات الشعب الفلسطيني، وكذلك مقاتليه ومثقفيه وأشبالها ونساءه. كنت اتساءل ما هو سر تلك "الكاريزما" التي يتمتع بها ياسر عرفات، حتى بعد استشهاده، هل هي نضالاته ووجوده في ساحات النضال والمعارك بجانب مقاتليه ؟، هل هي متابعته لكل تفاصيل ابناء شعبه ، أفراحهم وأتراحهم وآمالهم وطموحاتهم ؟ هل هي قرارته التي كانت تلامس عواطف ابناء شعبه ؟ هل هي هيئته العسكرية التي لم تتغير ؟ هل هو تقشفه وزهده في كافة مناحي الحياة؟.
ووجدت ان تلك التساؤلات تجيب عن نفسها ، لقد عرف ياسر عرفات بصورة جيدة التركيبة النفسية والاجتماعية المعقدة للشعب الفلسطيني ، والشخصية الفلسطينية ، والتي تكونت نتيجة الظروف التي مر بها، ما جعله يتعامل مع الجميع بمنظور "الأب" والذي يهتم ويتابع كل شؤون عائلته وصولا لأدق التفاصيل في حياة أسرته، والتي كانت تتكون، في منظورها الشمولي، من جميع ابناء الشعب الفلسطيني في مدنه وقراه ومخيماته، في الوطن والشتات.، بكافة اطيافهم ، العرقية والدينية والسياسية.
فالمواليد الجدد كان يهتم بمتابعتهم ويسأل عن الإحصائيات الخاصة بهم ويهتم بتوفير الظروف المناسبة لهم ، والأطفال والشباب والأشبال كان يعطيهم دورهم في قضيتهم الوطنية، مرددا المقولة التاريخية انه "سيرفع زهرة من زهراتنا وشبل من أشبالنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس". ونساء فلسطين كن دائما محل اهتمامه ومتابعته في كافة شؤونهن ومناحي حياتهن اليومية، فالمرأة الفلسطينية شريكة في النضال والكفاح الوطني الفلسطيني وكانت لها مكانة خاصة في اهتماماته خلال مسيرته الثورية.
أعاد ياسر عرفات صياغة الهوية الفلسطينية، وأعطى الكفاح المسلح شرعية تحظى باحترام الجميع، حرص دائما على الشراكة الوطنية، وسعى ان تشارك جميع القوى السياسية الفلسطينية بكافة اتجاهاتها في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، ورغم اختلاف الكثيرون معه الا انه حافظ دائما على علاقات جيدة مع الجميع، وأبقى قنوات الاتصال مفتوحة ، لاعتقاده الراسخ ان الثورة الفلسطينية هي "ملك" و "حق" لجميع ابناء الشعب الفلسطيني، وليس حكرا على احد.
لقد أنقذ ياسر عرفات الحالة العربية بعد هزيمة 1967م من حالة الانهيار إذ جعل الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد والمقاومة مستمرة معتبراً أن الهزيمة العسكرية يجب ألا تؤدي إلى انهزامية الشعوب وبهذا مكن الشعب الفلسطيني من استئناف الأمل. وشكل ظاهرة وجدت فيها الجماهير العربية رغبة لاحتضان الفدائيين في ظل فشل الأنظمة العربية. وجاء انتصار معركة الكرامة عام 1968م والمناداة بعدها بأبي عمار ناطقاً رسمياً باسم حركة فتح حتى تعرف العالم على قائد الثورة الفلسطينية. ويذكر هنا التاريخ الكلمات التي أطلقها الزعيم المصري جمال عبد الناصر في تلك الأيام قائلاً: "إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى".. ليضيف عرفات: "إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى ولتنتصر". لتصبح تلك الكلمات نبراساً يضيء الظلام الحالك الذي كان يلف العالم العربي وجماهيره التي كانت قد وصلت إلى أسوأ مراحل اليأس والإحباط بعد هزيمة حزيران 1967م.
استطاع عرفات المحافظة على القضية الفلسطينية، بالرغم من الأمواج والعواصف العاتية، والتطورات التي حدثت في المنطقة والعالم، معتمداً على سياسية اللعب على التناقضات، والانتقال من تحالف إلى آخر، ومن سياسة إلى أخرى ومحتفظاً بالقدرة على اعتراف غالبية القوى بزعامته دون منافس، وأن المنظمة التي يقودها هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ولذلك يعتبره الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم رمزاً شامخاً للنضال الوطني والثورة العالمية. تماماً كما اعتبر الفرنسيون شارل ديغول رمزاً لكفاحهم، وكما اعتبر مواطنو جنوب إفريقيا نلسون مانديلا رمزاً لتحررهم، وكما اعتبر الهنود المهاتما غاندي رمزاً لمقاومتهم السلمية ثم استقلالهم.
لقد خاض ياسر عرفات نضالاً طوال أكثر من 40 عاماً على مختلف الجبهات، في ظل السياسات والمصالح المتناقضة، وكرس الكيانية الفلسطينية. وعاش ثورة بساط الريح متنقلاً بين العواصم والدول. ومارس الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد، والدبلوماسية والإعلامية، وكرس فكر الوسطية والمرحلية والواقعية والرؤية الصائبة.
واقتبس كلمات شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش في رثاء القائد الشهيد الرمز ياسر عرفات والتي تختصر الكثير من الكلمات "هو ياسر عرفات من استطاع أن يروِّض التناقض في المنافي، بمزيج من البراغماتية والدين والغيبيات وتحوَّل بديناميكيته الخارقة وتماهيه الكامل بين الشخصي والعام وعبادة العمل، من قائد إلى رمز شديد اللمعان. لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق، بل لشقّها في حقول الألغام. قد يحتاج التاريخ إلى وقت طويل لترتيب أوراق هذا الرجل - الظاهرة. لكنه سيمنحه رتبة الشرف في علم القدرة على البقاء منذ الآن، ومنذ الآن سيتوقف طويلاً عند مغامرته - المعجزة: إشعال النار في الجليد: فقد قاد ثورة معاكسة لأي حساب، لأنها ربما جاءت قبل أوانها، أو بعد أوانها ربما. أو ربما لأن موازين القوى الإقليمية لا تأذن لأحد بإشعال عود كبريت قرب حقول النفط... وعلى مقربة من الأمن الإسرائيلي! لم ينتصر في المعارك العسكرية، لا في الوطن ولا في الشتات. لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني، ووضع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية، الإقليمية والدولية، وفي بلورة الهوية الوطنية للفلسطيني اللاجئ المنسيّ عند أطراف الغياب، وفي تثبيت الحقيقة الفلسطينية في الوعي الإنساني، ونجح في إقناع العالم بأن الحرب تبدأ من فلسطين، وبأن السلم يبدأ من فلسطين".
لقد كان ياسر عرفات مقاتلاً وقائدا، شهد له شعبه وأمته والعالم، وسيبقى هو العنوان لحكايتنا الفلسطينية التي تأبى النسيان، فرحيله يعني لابناء شعبنا فقدان الأب والقائد ، حامل همومهم ، وآمالهم ، وأحلامهم ، من هنا جاء احساسهم بالضياع في بحر الواقع الفلسطيني المتردي ، وخوفهم من غرق السفينة الفلسطينية التي تتقاذفها امواج الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية. وفي هذه الذكرى اطلق دعوة صادقة لقوى الشعب الفلسطيني قاطبة بكافة اتجاهاتها ، وطنية وإسلامية، الى ضرورة الوقوف أمام اللحظة التاريخية الحاسمة والخطيرة التي تمر بها قضيتنا الوطنية ، والتي تهددنا جميعا بدون استثناء، للدفاع عن الإرث التالي للشهيد ياسر عرفات ، وتضحيات آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، والذين يستصرخون فينا ان نقف جميعا وصفا واحداً في وجه المؤامرة الخطيرة والمحدقة بنا جميعا فلا مجال للخلاف والاختلاف ، تعالوا جميعا الى كلمة سواء، عنوانها فلسطين.
من أين هذه "الكاريزما" ؟
2018-11-15
بقلم: اللواء محمود الناطور