بقلم: محمد علوش
ما رَشَحَ من معلوماتٍ موثّقةٍ عشية مؤتمر البحرين الاقتصادي، يؤكّد "لازِمة" فكرية وسياسية مُتحكّمة بالعقل السياسي الغربي تجاه كلّ ما هو عربي.
لا يزال الغرب بفضائه الأوسع يتعامل مع القضايا العربية بعقلية التاجر غير الأمين، ويختزل البحث بها إلى دائرةٍ مادّيةٍ بحتة، أساسها أن كل شيء عند العرب قابل للمساومة.. كل شيء قابل للشراء بما فيها المبادئ والقِيَم والحقوق المُتوارَثة جيلاً بعد أجيال، وكل مشكلة مُستعصية يمكن حلّها إذا ما حضرت صفقات المال.
لعلّنا نتذكّر "توماس إدوارد لورنس" الضابط البريطاني الذي عانق الصحراء العربية واشتهر بلباسه البدوي العربي وهو يتنقّل من عشيرةٍ بدويةٍ إلى أخرى تحريضاً على الدولة العثمانية حتى تمكّن من استمالة زعماء قبائل للقتال إلى جانب البريطانيين ضد العثمانيين ، وهو يعدُهم بالاستقلال العربي عن العثمانيين وتشكيل الدولة العربية الكبرى قبل أن يستفيق العرب على أن المُخطّط هو مؤامرة لإحلال مستعمرٍ جديد، جالباً معه كل أنواع الحقد ومُخطّطات النَهْب وتقسيم العرب إلى جزر وحواشٍ سُمّيت لاحقاً كدول وإمارات وممالك. وهي في الحقيقة لا تمتلك من أمرها شيئاً، ظاهرة التبعية للمصالح البريطانية ولعموم الدول المُنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
ذهبت الدولة العثمانية، وولدت بعد عقدين ونيف دولة إسرائيل برعاية غربية لم تفارقها حتى يومنا هذا.
وها هو التاريخ يُعيد نفسه من جديدٍ مع بعض الرتوش والتوابل الدينية والفكرية والسياسية المُمهِّدة لتحوّلٍ جديدٍ يحقّق نفس الغاية التي حقّقها "لورانس العرب". بطلها اليوم "جاريد كوشنير" صهر "أبو إيفانكا". وما أشبه التلميذ بالأستاذ! صفقة القرن، مشروع جديد للعرب، يُنهي الصراع العَبَثي بين العرب وإسرائيل، ويوحّد طاقاتهما نحو تطوير المنطقة وتحسين معيشة أهلها، ويُنسّق جهودهما نحو العدو الحقيقي لكليهما: إيران وتيارات الإسلام السياسي وإلى حدٍ ما تركيا-أردوغان إذا ما أصرَّت على صلفها والمشاغبة في حدود الدور المسموح لها في المنطقة.
فلا لاءات القمّة العربية في السودان، ولا كل قرارات جامعة الدول العربية تجاه فلسطين، ولا كل المآسي المستمرة بفعل الاحتلال، ولا ملايين اللاجئين الفلسطينيين الموزّعين في دول الشتات، ولا كل ما هو مُقدَّس في الوعيين الديني المسيحي والإسلامي حول كنيسة القيامة والمسجد الأقصى تقف حجرة عثرة في وجه ما يحمله لورانس العرب الجديد "كوشنر".. فما نجح مع العرب مرّة وأخرى، فلماذا لا ينجح هذه المرّة أيضاً!
حفنة من المال كافية لشراء المبادئ والقِيَم والحقوق والذِمَم، ومن جيب مَن؟ من جيوب بارونات المال في دول الخليج. ستون مليار دولار ثمن الصفقة المطروحة لحل قضايا اللاجئين وتطوير الأراضي الفلسطينية وشراء المواقف العربية وحملها على التطبيع بل والتحالف الرسمي مع إسرائيل بوجه الأعداء الجُدُد.
ستون مليار دولار تُوزّع على كل من مصر والأردن ولبنان وفلسطين كافية في نظر ترامب لشراء الحق العربي والسماح لإسرائيل بالاستمتاع بكل ما كانت ترغب به في فلسطين المحتلة. والحماس يعلو الجميع من دون أن يقول لنا أحد كيف يمكن لهذا المبلغ الزهيد أن يحلّ أزمات المنطقة في حين أن ما قُدِّم لمصر منذ اعتلاء عبد الفتاح السيسي الحُكم في عام 2013 هو 20 مليار دولار، لا يُلحَظ لها أي أثر في تحسّن حياة المواطن المصري حتى اليوم؟!
والعرب من فَرْطِ سماحتهم، تجدهم مدفوعين بحماسٍ لا مثيل له للتنازُل عن كل ما يمتلكونه من أوراق قوّة، يكفيك أن تسمع ما نقلته صحيفة “غلوبس” الاقتصادية الإسرائيلية عن دبلوماسي سعودي رفيع، لم تكشف عن إسمه، قال خلال حوار معها: "العالم العربي ينظر إلى إسرائيل بإعجابٍ بسبب إنجازاتها التكنولوجية ويهدف إلى تقليدها ، وإن زمن الحروب معها ولّى، وإن صفقة القرن ستمنح الفلسطينيين استقلالاً حقيقياً واقتصاداً قوياً".
وإذا ما أراد الحاكِم العربي أمراً، كان له ما يريد، فإرادته من إرادة الله، وإذا مالَ قلبه فلا ينبغي لقلب من الرعية أن يستنكر، والدِّين في خدمته ورهن إصبعه. يكفيك أن تقرأ عشرات الفتاوى لرجال دين يتسابقون على تبرير ومباركة ما يقوم به أولياء أمورهم من عَبَثٍ بالعقول والتاريخ والأديان نفسها. قبل نحو شهر، وتزامُناً مع تكثيف التطبيع العربي مع وسائل الإعلام العبرية، افتى أحد الدُعاة بحرمة سبّ المسلم "إسرائيل" لأنه إسم نبيّ مذكور في القرآن. ونحن نجزم يقيناً أن الداعية المذكور يعلم يقين العِلم أن مَن يشتم إسرائيل اليوم لا يقصد نبيّاً وإنما دولة عنصرية تتستّر بالديانة اليهودية للسطو وتبرير سَلْب الفلسطينيين حقوقهم. فأيّ دين هذا الذي يدعو له أمثال مَن يجدون في إسرائيل صديقاً، وفي دولة أو دول مسلمة جارة لهم عدوّاً لدوداً؟!
(الميادين)