2024-11-29 11:46 م

كيف سيسجل التاريخ عام 2019؟

2019-12-18
بقلم: بثينة شعبان
عقد في الصين في 12-13 من الشهر الجاري مؤتمر مهم بعنوان «حوار جنوب – جنوب، وتطور حقوق الإنسان» وقد حضر هذا المؤتمر أكثر من 300 شخصية سياسية ودبلوماسية من أكثر من ثمانين دولة معظمها من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وكان هدف هذا المؤتمر هو محاولة وضع حلول للمشاكل التي تواجه هذا الملف المهمّ. وقد عبّرت معظم الكلمات والمداخلات عن استياء معظم الدول من وضع حقوق الإنسان في العالم، وخاصة من وضع الانتهاكات التي تعاني منها حقوق الإنسان، واستغلال هذه الانتهاكات من قبل الدول الغربية لتحقيق مآربها والتدخل في شؤون الدول الداخلية. وقد خلُص المؤتمر إلى استنتاجات مهمة جداً قد تشكّل مؤشراً للتعامل مع هذا الملف المهم في المستقبل؛ فبعد المداولات والحوارات والكلمات توصّل المجتمعون إلى أن حقيقة الأمر هو أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وضع في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، قد وُضع في لحظة تاريخية كانت معظم دول الجنوب إما مازالت ترزح تحت الاحتلال الاستعماري الذي أنهك الشعوب نهباً وقمعاً وحشياً وإما أنها خرجت للتوّ من تحت نير الاحتلال الغربي العنصري، وذلك يعني أنها لم تكن قادرة على أن تساهم في أن يكون لها دور رئيسي في وضع هذه الشرعة، حتى وإن كانت موجودة بشكل اسمي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتالي الذي وضع هذه الشرعة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948 هم بشكل أساسي الدول الغربية. ليس هذا فقط، ولكنّ الدول الغربية، منذ ذلك التاريخ وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، قد نصّبت نفسها مسؤولة ليس فقط عن مفهوم حقوق الإنسان، وإنما عن آلية وكيفية تنفيذ هذا المفهوم في معظم دول العالم. وإلى حدّ الآن فإن الدول الغربية هي التي تقرّر أين يُساء إلى حقوق الإنسان، ومن هي الدول التي تلتزم بها، حتى وإن كان هذا القرار يجافي الواقع إلى حدّ بعيد. وإذا ما قررت هذه الدول الغربية أن تتجاهل انتهاكات وإساءات الدول «الصديقة» أي التابعة لها إلى حقوق الإنسان، فإنه لا يجرؤ أحد من السياسيين والإعلاميين على انتقاد أو ذكر هذه الإساءات والانتهاكات، وإذا تجرّأ أحد على فعل ذلك فسوف ينال نصيبه من العقاب من هذه الدول الغربية، وأكبر مثال على ذلك هو الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني في فلسطين المحتلة ولحقوق الإنسان في الجولان العربي السوري المحتلّ؛ إذ إن هذه الانتهاكات تحاول أن تطمس هوية المكان والشعب، وأن تستبدل هذه الهوية بالهوية التي ينسجها الكيان الصهيوني على هواه ليثبت زوراً وبهتاناً يهودية هذه المنطقة، وليحرم السكان الأصليين من حقهم التاريخي في هذه الأرض، ويرافق هذا العمل الذي يقوم به الكيان الصهيوني اقتلاع الأشجار، وتدمير البيوت، وتهجير السكان، وتدمير المساجد والكنائس، وطرد السكان الأصليين، وحرمانهم من حقوقهم المدنية ومن التعليم ومن لعب دور في السياسة، ومن العودة إلى القدس وإلى أماكنهم التاريخية، كما يشمل هذا في الجولان العربي السوري المحتل محاولة تغيير طبيعة الجولان العربي السوري المحتلّ، وتجريف آثاره، وبناء المستوطنات في فلسطين والجولان، واستقدام المستوطنين والمهاجرين ليحلّوا مكان السكان الأصليين. ورغم أن هذه الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان مستمرة منذ عقود، فإنّ أحداً في الغرب لا يدين هذه الانتهاكات، ومن يجرؤ على إدانة هذه الانتهاكات وتأييد حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه والسوري في جولانه، فإنهم يتعرضون إلى عقوبات صارمة من مجموعة الدول الغربية. والمثال الأخطر الذي قامت به الدول الغربية بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي هو تقسيم يوغسلافيا بعد إشعال نار الفتنة بين سكانها والتهيئة لارتكاب مجازر، الأمر الذي وفّر للولايات المتحدة صيغة جاهزة للتدخل لاحقاً في شؤون العراق وأوكرانيا وليبيا وسورية خارج نطاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية.
اليوم الولايات المتحدة وبحجة دعم حقوق الإنسان تثير الفتنة في العراق وليبيا وفنزويلا وبوليفيا ولبنان وسورية أو حتى في الصين مؤخراً حيث أصدرت قرارين لدعم المتمردين في هونغ كونغ، وما يسمونه دعم المسلمين في مقاطعة شينجيانغ، الأمر الذي يقصد منه التدخل في شؤون الصين الداخلية ومحاولة تفتيتها كي لا تصبح القوة الأولى في العالم. وكذلك تدخل الولايات المتحدة بحجة دعم الأكراد في شمال العراق وشمال شرق سورية؛ إذ وضعت أيديها على النفط السوري وتدخلت في شؤون البلد في محاولة منها لتقسيم البلاد، كما قام الناتو بقصف ليبيا خارج إطار الشرعية الدولية، والأمم المتحدة.
إذاً، بهذا المعنى، فإنّ الغرب ما زال يستخدم مفهوم «حقوق الإنسان» كأداة من أدوات التدخل في شؤون الدول المناهضة لسياسات النهب الاستعماري بهدف إضعافها والسيطرة على مواردها، أو احتلال موقع جغرافي، أو لنهب النفط، أو لحرمان السكان الأصليين من حقهم في إدارة البلاد كما حدث مؤخراً في بوليفيا وفنزويلا.
إذاً المرحلة التي يواجهها العالم اليوم هي مرحلة خطيرة ناجمة عن استفراد القطب الواحد بتعريف وتطبيق الشرعية الدولية، وتعريف وتطبيق حقوق الإنسان في جميع بلاد العالم. ولا شكّ أن روسيا والصين تحاولان جاهدتين إعادة تشكيل قطبين أساسيين يحدّان من هيمنة القطب الواحد. وكلّما قامت روسيا والصين بخطوة حقيقية في هذا الاتجاه، كالت إليهما الولايات المتحدة العقوبات في محاولة منع تقدمهما في هذا المسار، ذلك لأن تقدّم روسيا والصين سواء في التعامل بالعملة المحلية في التجارة وعدم استخدام الدولار، أم في دعم الدول الأخرى، فهذا من شأنه تهديد هيمنة القطب الواحد والمحاولة الجادّة للانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب.
الانطباع الذي خلصتُ إليه من خلال جلسات المؤتمر والاستماع إلى النقاشات والحوارات، هو أنني وجدت أن الضمير الوطني في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا قد ضاق ذرعاً بالفعل بهيمنة الولايات المتحدة وعبثها ببلدان العالم، وعدم احترامها للدول المستقلة، ولسيادة هذه الدول، ولحضارة وحرية هذه الحكومات في إدارة شؤون بلدانها، وكأنّ الغرب يضع نفسه حكماً على البشرية جمعاء بأسلوب لا يخلو من النظرة العنصرية إلى الآخرين، وأنّ شعوب العالم تتطلّع إلى قيادة مختلفة للعالم تلبّي طموحاتهم، وتحترم سيادتهم واستقلالهم وتعترف بندّيتهم ومشاركتهم في بناء هذا الكوكب.
وقد كانت الصين في هذا المؤتمر متفهّمة لكلّ هذه الطموحات، وكانت هي ذاتها تسعى لخلق صيغة مشتركة تحترم فعلاً حقوق الإنسان، وتمثّل ضمير الإنسانية بما يرضي شعوب الأرض وبما يحافظ على إنسانية متساوية للجميع، وعلى سيادة واستقلال جميع الدول، غنيها وفقيرها، صغيرها وكبيرها. هذا يعني وضع حدّ للهيمنة الغربية على هذه الدول، ووضع حدّ لاستباحة هذه الدول والتدخّل في شؤونها الداخلية بذرائع وحجج مختلفة. وفي كلّ هذا كان الإعلام الغربي عاملاً مساعداً لسياسة هذه الحكومات ومروّجاً لهذه السياسات بحيثُ يذرّ الرماد في العيون لكي يشعر العالم أن ما يقوم به ينطلق من احترامه للدول ولحقوق الإنسان وهذا بعيد عن الواقع كلّ البعد والانتهاكات الأميركية في أبو غريب وبقية المعتقلات التابعة لمخابراتها شاهد على ذلك. في الواقع لقد سقطت وإلى الأبد نظرية الإعلام الحرّ في الغرب؛ إذ لا يوجد إعلام حرّ في الغرب بل إن الإعلام الغربي قبيل وخلال وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي قد لعب دوراً مهماً في دعم الدور الذي تقوم به حكومة الولايات المتحدة في التدخل بشؤون الدول.
لذلك فإنّ المؤتمر الذي عُقد في الصين بزعامة صينية هو مؤتمر مهم للغاية إذ يشكّل هذا المؤتمر بداية تشكّل جذوة حقيقية لضمير عالمي يرفض الأحادية القطبية والهيمنة الغربية، ويسعى لخلق شكل من التشاركية والندية والاحترام بين الدول. وقد خلُص المؤتمر إلى أن هذا الحوار المهم بين دول الجنوب حول تطور حقوق الإنسان مرشّح أن يعقد في دورته القادمة بحضور دول من الشمال لمناقشة شرعة حقوق الإنسان والانتهاكات التي تُرتكب باسم هذه الشرعة، ولإيجاد البدائل العالمية الحقيقية للحفاظ على حقوق الإنسان وللوقوف صفاً واحداً ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان. فإذا كانت غلوبال ريسيرتش في مقالها الهام والأخير وهي محقة في ذلك، قد قالت إن عام 1991 هو علامة فاصلة للغرب، وكان منبّئاً بكلّ ما جرى من بعده؛ ذلك لأن أحداث يوغسلافيا في عام 1991 وتصرّف الغرب في هذه الأحداث قد شكل سابقة استخدمها الغرب فيما بعد في العراق وليبيا وسورية، وهذا أمر سليم تماماً وصحيح ومطابق للواقع. أعتقد اليوم أن الاجتماع في بكين هو الخطوة الأولى باتجاه نقاش دولي هام وجدّي حول حقوق الإنسان، وسوف يشكّل الخطوة الأولى في السعي من أجل إيجاد صيغة أخرى لحقوق الإنسان تحترم فعلاً هذه الحقوق في كلّ دول العالم، ولا تسمح بانتهاكات لها من قبل حليف أو صديق، كما يفعل الغرب، ولا تستخدم حقوق الإنسان ذريعة للتدخل في شؤون الدول، أو لنهب مواردها الطبيعية، أو للسيطرة على منطقة جغرافية، أو لارتكاب أسوأ المجازر بحقّ هذه الشعوب. فكما كان عام 1991 مؤذناً بقطب واحد يهيمن على دول العالم ويتصرّف كما يشاء بسكان هذا الكوكب، فإن صعود الصين اليوم واهتمامها بالملفات الدولية بالإضافة إلى تقدمها الاقتصادي والتقني في العالم سوف يشكّل عتبة أساسية للتشاركية في العالم ولتعدد القطبية. رغم أن الولايات المتحدة تصدر عقوبات إثر عقوبات لكلّ الدول التي لا تؤيد مسارها، فإنّ هذه العقوبات بذاتها تمثّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الملايين من الشعوب في الحياة الحرّة الكريمة. لقد كان جميع المشاركين متفقين على أن هذا الأسلوب لا مستقبل له، بل هو مرفوض من الضمير العالمي ومن قبل معظم دول العالم، وما يتحدث به ضمير الناس اليوم بصدق وشفافية لا بدّ أن يشكّل واقعاً في عالم الغد، ولهذا أتوقع أن تتوالى الجهود واللقاءات والمناقشات مترافقة مع الخطوات الاقتصادية والسياسية الجبارة التي تقوم بها الصين وروسيا والهند وإيران وفنزويلا وبوليفيا وبالطبع سورية في مواجهة هيمنة القطب الواحد.
ونحن نودّع عام 2019 نرى بشائر تجمع عالمي لكسر هيمنة القطب الواحد ولولادة عالم متعدد الأقطاب يسود فيه الاحترام المتبادل والندّية للدول والشعوب، وتنتفي به محاولات الهيمنة على موارد الشعوب وعلى بلدانها والتدخل في شؤونها. قد لا يحدث هذا الأمر غداً ولكنّ طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، ولا شكّ أن هذه الخطوة قد بدأت في بكين في 11 -12 كانون الأول 2019.
الوطن السورية