بقلم: المهدي بوتمزين
لا جدل يثار حول شرعية و مشروعية الملكية في المغرب التي تتمتع بمؤيد ديني و هو أن الملك أمير للمؤمنين و سليل للبيت النبوي , ما يولد هالة روحية على العرش تأخذ بأفئدة و نواصي الرعية . أما الدعامة التاريخية فتبرز بتجذر العلويين في حكم المغرب ما يعني باءة هائلة على تدبير الأوضاع و تجاوز الأزمات و ربط العلائق المتينة مع الداخل و الخارج . كما توجد ركائز أخرى كقيادة أركان الجيش و رئاسة القضاء و صلاحيات عدة على مستوى الجهازين التنفيذي و التشريعي نص عليها الدستور المغربي لسنة 2011 .
الدستور المغربي الأخير جاء كاستجابة '' بيولوجية '' للتكيف و تجاوز الخطر الذي خلقه الربيع العربي و الذي كان ينذر بتحولات عميقة و حقيقية و ليس مجرد نزوات ثورية تنتهي برمي الفتات في أفواه الجياع من كسرة خبز, بدل الجوع للحرية و الكرامة و العدالة الإجتماعية . لقد كانت تجليات التغيير في العالم العربي واضحة لا تترك مسافة للتردد أو الفرار أو محاولة الإلتفاف و تأليب جمهور المؤيدين عن باطن المطالب . إنها محطة نضالية في تاريخ الشعوب ؛ استطاع فيها الصوت الجماعي أن يزيح أقوى الأنظمة الديكتاتورية لاسيما نظام أحمد البشير في السودان الذي تأكد نفسه من أن رقصاته السيركية لا تجدي نفعا في وقت الشروق الحقيقي للحرية و الإنعتاق من العبودية .
و إذ ظل مصدر تسمية ثورات 2011 بالربيع العربي مجهولا , سواء للإستهلاك الإعلامي أو إثارة للأوتار النفسية و الإجتماعية . فإن الأطراف التي عملت على تصدير الفوضى أو معاكستها و إستغلالها بما يخدم مصالحها تبقى في حكم المعلوم . في سوريا تم العزف على أكثر من وتر في الاَن ذاته , فتارة يدعمون الأسد و تارة ثانية يكيلون له التهم و يمهدون له الطريق لمتابعات قضائية دولية , ما جعل البلد في حالة موت إكلينيكي يستعصي الخروج منه ولو بالعلاج بالصدمات .
في ليبيا نجد أن أطرافا تؤيد حكومة الوفاق المنتخبة شرعيا و المعترف بها دوليا , في حين أن دولا أخرى تدعم المشير خليفة حفتر الذي يخسر حربه كما خسرها إبان الحرب الليبية التشادية . و الدول العليا التي تساند هذا الأخير هي نفسها التي تدعم عبد الفتاح السيسي الذي أنهى تجربة ديمقراطية فريدة بعد إنتخاب رئيس شرعي للبلد كان سيوافق بين جميع الأطياف في البلد .
إن انعدام تصور لدى الشعوب حول سؤال ماذا بعد الثورة ؟ و أي بناء ممكن بعد الهدم ؟ جعلها تتخبط عشوائيا في الإرتجالية و الإتكالية على الصدف و ماَلات الأحداث . و السبب المحوري في ذلك هو وجود وكالات لإستغلال الأوضاع و الركوب على أمواج الثورات . بغية الحصول على صفقات بيع الأسلحة و التنقيب عن البترول و الغاز و امتصاص مقدرات البلد . إنها حرب ناعمة لا تتطلب ثكنات عسكرية بقدر ما تستلزم عناصرا بشرية للتخطيط و المفاوضة و الإبتزاز و أخرى للخيانة و العمالة .
المملكة المغربية كانت رقما صعبا في معادلة الربيع العربي الذي لم يكن له إلا تأثير الفراشة على الوضع العام , بما يمكن اعتباره دافعية كيميائة لتنشيط أعصاب الدولة و تجديد الرؤية . إنه تيار لا محيد عنه لإعادة توجيه المَركب إلى خطوطه الصحيحة لمسايرة التحولات الجيواستراتجية و الجيوسياسية في المنطقة و العالم .
أولى الخطوات التي تمت مباشرتها هو تنزيل الملكية البرلمانية بما يقوض سلطات الملك و يوسع من اختصاصات الحكومة , وهذا مطلب رفعته بعض القوى اليسارية في المغرب و تحفظت عنه الأحزاب الإسلامية على اعتبار أن الملك هو أمير المؤمنين و لا يجب التقزيم من سلطاته . لن أجامل بالقول لا الإدعاء أنه بناء على سيرورة الأوضاع في البلدان العربية فالغاية التي لا تستدرك إن فقدنا سبيلها هو طلب الإستمرارية السليمة للملك أما ما دون ذلك فيظل معطيات يمكن تصحيحها و تعديلها .
الخط الثاني الذي تم تصويبه هو الإنتخاب الديمقراطي لحزب إسلامي – حزب العدالة و التنمية – هذا الإنتخاب لم يكن نتاج فعالية البرنامج الحزبي أو التاريخ السياسي بقدر ما كانت الدافعية ترتبط بأمل الشعوب في استعادة جزء من التاريخ القديم حيث كان الحكم إسلاميا يسوده العدل و الشورى و القضاء بالحق و الإيمان بالقيم . فانتصر الإخوان المسلمون في مصر و حزب النهضة في تونس و حزب العدالة و التنمية في المغرب , و التي حاولت نقل نجاح تجربة الحزب الإسلامي في تركيا (العدالة و التنمية التركي ) , قبل أن يصطدم قطار الإسلاميين بالثورة المضادة التي تريد تثبيت حكم عسكري علماني في جميع الأقطار العربية . و إن فشل أي حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية في تدبير القضايا بعدالة شمولية و حنكة سياسية سيهوي به في العمق ليترك المكان شبه خاليا للأحزاب اليسارية التقدمية التي تؤمن بقيم الكفاح العلني و لا تلعب على كافة الأوجه و لا تَرهن نفسها لإملاءات السلطة أو الدولة العميقة . على هذا الأساس تأسس حزب الأصالة و المعاصرة المغربي سنة 2008 كمحاولة للتوفيق بين ارتباطات الماضي و رهانات الحاضر و أمال المستقبل .
إن القوة الدفاعية للمغرب في السياسة الداخلية ترتبط بالتعددية الحزبية المنصوص عليها دستوريا, حيث تنتفي تلقائيا حاجة السلطة لأفراد أو أحزاب معينة للموافقة على السير وفق الخطة الممنوحة . لنقل أن الطلب من قبل الأحزاب السياسية يفوق بمسافات وارفة العرض المقدم من قبل السلطة أو المخزن حسب التعبير المتداول في الأدب السياسي المغربي ؛ بشكل يماثل وضعية سوسيواقتصادية تُنعث في اللغة العامِّية ب '' المٌوقف '' و هو مكان يجتمع فيه المياومون لتقديم خدماتهم الحرفية و الصناعية و اليدوية لمن يتقدم لطلب ذلك منهم .فهل تفتقد الأحزاب السياسية إلى الكفاءة و المعرفة لتضع نفسها في موقف المياومين؟
لقد تعددت الإصلاحات التي باشرها المغرب في المراحل الثلاث خلال حكم الملك محمد السادس , حيث تمتد المرحلة الأولى منذ توليه العرش و تُستهل المرحلة الثانية بعد الأزمة الإقتصادية العالمية سنة 2008 , أما المرحلة الثالثة فكانت مع باكورة الربيع العربي إلى الاَن . هذا الإصلاحات الجهورية و العميقة كانت على مستويات عدة : دينية و إقتصادية و إجتماعية و حقوقية و أمنية لا يسعنا التفصيل فيها ضمن مقالنا هذا .
الإجراء المطلوب اَنيا في المغرب هو إعادة الثقة بين المواطن و المؤسسات ومما لاريب فيه أن تداعيات فيروس كوفيد-19 و ما استتبع ذلك من تلاحم بين مختلف مكونات المجتمع ليعد جسرا نحو هذا الإرتباط المنشود . كما يجب ربط المسؤولية بالمحاسبة على أرض الواقع و لا يستقيم ذلك إلا إذا رأى الشعب نصب متابعات قضائية في حق المختلسين للميزانية أمام المكتب المركزي للأبحاث القضائية (البسيج) الذي يختص بالقضايا الكبرى ,و إن الواقع و التجربة أكَّدتا أن متابعة أباطرة المال و الأعمال في المغرب من طرف النيابة العامة أو التحقيق معهم في المراكز الأمنية التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني أمر مستبعد لسنيين ضوئية , هذا يعني المطالبة بإدراج جرائم إختلاس المال العام و إستغلال النفوذ و الرشوة ضمن اختصاصات البسيج متى ارتبطت بمستويات عالية من المسؤولية .
كما يبقى الرهان حاضرا على إصلاح شمولي لقطاعي الصحة و التعليم و تأميم المؤسسات و الإنعتاق من توصيات و إملاءات المؤسسات المالية الدولية . كما أن الحاجة الملحة اليوم للتماسك الإجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع المغربي و نبذ العصبية , فكلنا من اَدم و اَدم من تراب و السلام على من اتيع الهدى .
كيف حمَت الملكية في المغرب البلد من الفوضى الهدَّامة
2020-06-20