بقلم: حسن لافي
اعتبر دونالد ترامب، الرئيس الأميركي القادم إلى البيت الأبيض على أكتاف المسيحيين الأنجليكانيين، المؤمنين بالأساطير التوراتية نصاً حرفياً، وليس فقط تفسيراً تلمودياً، أن صناعة حلف صهيوعربي تحت المظلّة الأميركية في الشرق الأوسط يتطلّب انتقال التعاون السياسي الأمني الخفي بين دول التطبيع العربي و"إسرائيل" إلى مرحلة التحالف الشامل، الأمر الَّذي يتطلّب خلق حالة من التدجين الثقافي، تهدف إلى قبول الشعوب العربية بالرواية الصهيونية، بل والاعتراف بالأحقيّة اليهودية، ليس على فلسطين فحسب، بل على كل الجغرافيا التوراتية في المنطقة العربية أيضاً.
بالتأكيد، سينعكس التدجين الثقافي، كحالة سلبية مشوّهة، على النظرة الجمعية للجماهير العربية تجاه القضية الفلسطينية، بحيث تتحوَّل من قضيّة الأمة المركزية إلى العقبة الرئيسية أمام إقامة التحالف الصهيوعربي الحافظ للأمن القومي العربي من الخطر الإيراني المصطنع.
ولاستكمال عملية صهر الوعي لدى الشعوب العربية، المطلوب محاولة تصوير الفلسطينيين على أنهم شعب كاره للسلام، يسعى إلى إطالة أمد الصراع من أجل التربّح من أموال الخليج على حساب مستقبل شعوب الخليج وازدهارها وأمنها، كما حاول الترويج له هاشتاغ "فلسطين ليست قضيتي"، الذي انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي في بعض دول الخليج، بدعم من بعض نخبها المستأجرة، في محاولة لشيطنة كل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية.
تنبع خطورة التّدجين الثقافيّ من عدم اقتصاره على تلك النخب الحاكمة التي تم تجهيزها منذ فترة طويلة، وتم غسل أدمغتها في أكاديميات الاستشراق في الولايات المتحدة وبريطانيا، بل الخطر يتعداها للوصول إلى شباب الأمة، بهدف إعدام الدافع الأساسي لفكرة مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة داخل العقل العربي، وتجفيف منابعها الثقافية والعقدية في الوعي العربي بحالة من حالات التزييف الممنهج للإدراك العربي، ليس فقط من خلال بناء جدار حديدي في العقل العربي، من خلال بناء قناعة بعدم قدرة العرب على تحقيق الانتصار أمام "إسرائيل" بالقوة العسكرية، وبالتالي دفعهم إلى التعايش معها كأمر واقع، كما أراد زئييف جابوتنسكي، أبو اليمين الصهيوني، بل بات الحديث في ظلّ مرحلة التدجين الثقافي عن إضفاء الشرعية على المشروع الصهيوني برمته، ليس كأمر واقع لا يمكن هزيمته فحسب، بل كاستحقاق تاريخي وحضاري وسياسي للحركة الصهيونية في فلسطين والمنطقة أيضاً.
لم تولد حالة التدجين الثقافي العربي من فراغ، وهي ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج خطّة طويلة النفس بدأها المحافظون الجدد بما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، الهادف إلى إنهاء فكرة المقاومة بالقوة العسكرية، من خلال القضاء على انتفاضة الأقصى في فلسطين، ومن ثم محاولة التخلّص من حزب الله في لبنان، ولكنَّ هزيمة "إسرائيل" في حرب تموز/يوليو 2006 حالت دون تحقيق ذلك.
برزت الفكرة مجدداً من خلال ما يسمى نظرية "حدود الدم"، الساعية إلى تقسيم المنطقة بحسب الأعراق والمذاهب، بما يتناسب مع الحفاظ على المصالح الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط، مستغلة ما نتج من شروخ وهزات في الجيوبوليتيك العربي على أثر ما يسمى بـ"الربيع العربي"، ما أنتج استفراد دول الخليج بزعامة السعودية بتولي قيادة المنظومة العربية، بعدما تمت إزاحة دول عربية وازنة، مثل مصر وسوريا وليبيا، وقبلهما العراق، من خلال إغراقها بحروب داخلية تحت عناوين طائفية من جهة، ومطالبات إصلاحية من جهة أخرى.
وبذلك، بات مركز ثقل صنع القرار العربي مرهوناً بالدعم الماليّ الخليجيّ، ما سهَّل الأمر لاختلاق ما يسمّى بوهم الخطر الإيراني، ليمثل الفزاعة التي تستخدمها قيادات الخليج في إرهاب الشّعوب العربيّة، وفي الوقت ذاته تخلق لنفسها الذريعة لفتح مساحات مشتركة من التعاون مع "إسرائيل" تحت هذه الحجة الكاذبة. وبذلك، تم تسويق توطيد التعاون الخليجي الإسرائيلي كجزء من منظومة الأمن القوميّ العربيّ.
اقتنع ترامب القادم من سوق الأعمال والسمسرة أنَّ الفرصة مهيأة في ظلِّ القيادة الخليجية الشابة للمنظومة العربية، للانتقال من استراتيجية إدارة الصراع العربي الإسرائيلي إلى استراتيجية حسم هذا الصراع لصالح الحركة الصهيونية، ليس سياسياً فقط، بل حضارياً وتاريخياً وثقافياً أيضاً، من خلال إحداث الصدمات المتتالية في الوعي الشعبي العربي المنشغل بالبحث عن لقمة عيشه وتأمين متطلبات حياته، بدءاً من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لـ"دولة إسرائيل" اليهودية، والاعتراف بهضبة الجولان كأرض إسرائيلية، وليس انتهاء بـ"صفقة القرن" الشاطبة لكلّ الحقوق الفلسطينية السياسية والحضارية.
في ظلِّ ذروة التجبّر الصهيوأميركي، الَّذي يفرض على الجميع مقاومته وتسخير كلّ ما أوتي للأمة العربية من إمكانيّات لهذه المقاومة لكونه يمثّل تهديداً وجودياً لكينونتها الحضاريّة والثقافيّة ناهيك بمستقبلها السياسيّ والاقتصاديّ، يتمّ الإعلان عن اتفاق سلام بين الإمارات و"إسرائيل"، كحالة من حالات التماهي الخليجي مع المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، وإعلاناً للدخول في مرحلة التدجين الثقافي العربي تجاه المشروع الصهيوني.
الميادين