2024-11-28 12:31 ص

إنسانية العنف: المقاومة الفلسطينية المسلحة

2021-05-14
بقلم: مريم الدجاني
إن فشل منظومة القبة الحديدية للدفاع الجوي الإسرائيلي في التصدي لعشرات الصواريخ التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس ، ردا على العدوان الإسرائيلي على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح في القدس وعلى قطاع غزة والغارات التي استهدفت مدنيين وأسفرت عن سقوط شهداء وعشرات الجرحى، ليس سوى صفعة لأبّهة وجلال أسطورة الجيش الذي لا يقهر، هذه الأسطورة التي أوهمتنا لأجيال أننا كفلسطينيين لن نتمكن من التصدي للاحتلال إلا بصدور عارية و حجارة وصراع غير مسلح لعدم تكافؤ القوة. لكن يبدو أن هذه المعادلة قد تغيرت اليوم، مرة واحد وإلى الأبد.
لهذا يجب علينا أن نسعى للكفاح المسلح بأي ثمن. في الحقيقة نحن لا نطمع في أن نحاور إسرائيل، أو نخجلها من نفسها، أو أن نعري كذبها. فنحن نعلم أن الاحتلال لا يمكن اقتلاعه بالإقناع، وأن التحرر منه لا يكون إلا بالعنف. إنك لا تستطيع أن تصفي الاحتلال إلا بحمل السلاح، بإسالة الدماء. لذا لا بد أن نيأس من أن يثوب العالم إلى رشده، ويجب ألا نرهق أنفسنا بالتحدث إليه، بل علينا أن نتجه إلى إخوتنا الذين حملوا السلاح وأخذوا يريقون الدماء حقا. فالمبالغة في دور الضحية وتحويل القضية الفلسطينية لصراع سلمي بين محتل ومنزوع السلاح ليست مجدية على المدى البعيد. علينا أن نؤمن أنه لابد أن العنف الجامح ليس زوبعة سخيفة، ولا تيقظ لغرائز وحشية، ولا هو ثمرة حقد، بل إن الإنسان يعيد تشكيل نفسه من خلال العنف تشكيلا جديدا، فعلامات العنف لا يستطيع أن يمحوها أي لين، لأن العنف وحده، ووحده فقط، يستطيع أن يهدمها. وإن إنسانية المقاتل هي سلاحه، إذ في أول مرحلة من مراحل الثورة يجب عليه أن يَقتُل. إنه حين يقتل إسرائيليا يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد: يزيل مضطهَدا ومضطهِدا في آن واحد، إذ ما يتبقى بعد القتل: رجل ميت ورجل آخر حر. والذي يبقى حيا يشعر لأول مرة بحريته. وفي هذه اللحظة لا تكون الأمة بعيدة عنه فهي تتحد بحريته، وبعدها يتحرك جيش الاحتلال، فإما أن يتحد أصحاب الحق جميعا وإما أن يُقتلوا.
فالمقاوم إنسان يبدأ حياته من نهايتها. هو موقن أنه مقتول لامحالة، قد يكون فقد زوجته وأبناءه، ولقد بلغ المقاوم من فرط رؤيته لاحتضار الآخرين أنه لا يريد أن يعيش بقدر ما يريد أن ينتصر، وقد استسلم إلى أن غيره سيستفيد من النصر، لا هو. لقد سئم، لكن هذه السآمة كلها قد تصبح مصدر شجاعة لا تصدق. فقد كانت الإنسانية عند البشر تسبق الموت والبأس، أما هو فيجدها بعد العذاب وبعد الموت. كل البشرية تنفخ هواء فارغا، أما العاصفة الحقيقية فهو. إنه ابن العنف يستمد منه في كل لحظة إنسانيته، فقد كان الجميع بشرا على حسابه، وهو يصبح بشرا على حساب الجميع، يصبح إنسانا أفضل، يستحق إنسانيته بالعنف الذي يخلق منه إنسانا.
إن رفض العنف مع الاحتلال يعري كل المزاعم الإنسانية. فكل الدعاوى التي تتشدق بالإنسانية إنما هي عورات مكشوفة، ولم تكن سوى أيديولوجيات كاذبة. كانت تسويغا للنهب والسلب، لقد كان لينها ولزوجتها كفالة وضمانة لاستمرار العدوان. والعنف كحربة أخيل، يمكن أن يلئم الجروح التي يحدثها. ولهذا كان محو الاحتلال حدثا عنيفا دائما، لأنه عبارة عن إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر إحلالا كليا، كاملا، مطلقا بدون مراحل انتقالية. فهو يستهدف تغيير نظام العالم وهو مبرمج لقلب النظم كلها قلبا مطلقا. وهذا لا يمكن أن  يكون وديا أو سلميا في أية حال من الأحوال. ولهذا يحاول السياسيون دائما إبعاد الطبقات الدنيا من صناعة القرار لأن معادلة الوجود عندهم واضحة، خلافا لطبقات المثقفين الذين عادة ما يدافعون عن مصالحهم الشخصية وحسب. وهذا ليس دفاعا عن حق عام أو خاص، او حتى مصلحة بلد.  فقد كانت خيانة المثقفين عنوان المرحلة، منذ بداية الربيع العربي اذا صحت تسميته بذلك. قد يعلو صوتهم بين الفينة والأخرى طمعا في مصلحة ما، فيتم إسكاتهم بفتات.
أما العنف فهو يوحد الشعب، فالاحتلال لا يكتفي بأن يعلم بأن هناك تناحر، وإنما هو يعزز وجوده. فالأنظمة المحتلة تغذي الزعامات المحلية وتنشط الانقسامات الفكرية والأيديولوجية، أما العنف فهو الذي يوحد بين الأفراد على الصعيد القومي، و هو كذلك يحمل في رحمه المقدس بذور القضاء على المناطقية والقبلية وكل أنواع الأيديولوجيات. تحت النار تتلاشى الأحقاد، ويصبح الكل سواسية، والعنف أيضا يطهر الأفراد من السموم، إنه يخلص الشعب المحتَل من عقدة النقص التي تعيث في نفسه فسادا، ويحرره من موقف المشاهِد واليائِس، ويرد إليه شجاعته، و إيمانه بقدرته، ويعيد إليه اعتباره في نظر نفسه. وحتى حين يكون الكفاح المسلح رمزيا، و حتى حين ينتهي بتصفية الاحتلال تصفية سريعة، فإن الشعب يتسع وقته وعقله و قلبه لأن يدرك أن هذا التحرير قد قام به جميع الأفراد، بل قام به كل فرد، وإن القائد لا يمتاز بفضل خاص. فالعنف يرفع الشعب بأجمعه إلى مستوى القائد. هذه الجماهير التي شاركت بالعنف في معركة التحرير لا تسمح لأحد أن يعد نفسه (محرِّرا). فهي حريصة أشد الحرص على الحفاظ على ثمرة نضالها، و هي تحاذر أن تعهد بمستقبلها و مصير شعبها إلى سياسيين ومثقفين، ربما كانت بالأمس غير مسؤولة، ولكنها اليوم تريد أن تفهم كل شيء، و تقرر كل شيء. فقد أضاء العنف ضميرها بنوره، ذلك النور الذي يستعصي على كل محاولة ظلامية بتهدئة الخواطر والدعوة الخائنة إلى ضبط النفس.
وهنا ما من نداء أو خطاب ينبغي أن يصرف الشعب عن مهماته الأساسية التي هي تحرير أرض الوطن بكفاح يخوضه في كل لحظة ضد الأشكال الجديدة التي يتخذها الاحتلال، ويصر فيه إصرارا عنيدا على ألا يُفتن أو يُضلَّل.
فالكفاح الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن. وليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقا وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمّي في أثناء انطلاقها مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات فكرية ثقافية جديدة. فالكفاح لا يخدر الثقافة أثناء اندفاعه، بل يزكيها. وكفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمتها القديمة وأطرها القديمة، ولا يمكن ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب. إن التحرر بالكفاح لا يزيل الاحتلال فحسب، بل ويشفي كل الأرواح السقيمة والجروح الفكرية البالية ليسترجع المقاوم إنسانيته المسلوبة.
كاتبة فلسطينية


رأي اليوم