بقلم: محمد ابو رمان
يعمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إبقاء الباب موارباً في ما يتعلّق بالخطّة التي قدّمها العرب بديلاً عن مشروعه في تهجير سكّان غزّة. ففي البداية، قال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي، برايان هيوز، إن المقترح العربي "لا يعالج حقيقة أن غزّة غير صالحة للسكن حالياً"، وأن السكّان "لا يستطيعون العيش بشكل إنساني في منطقة مغطاة بالحطام والذخائر غير المنفجّرة". وفي الوقت نفسه، يُظهر الرئيس ترامب تناقضاً (قد يكون مقصوداً) في التصريحات. فتارةً يؤكّد أنّ الخطّة التي قدّمها للتهجير ممتازة، وأنّها وَجدتْ قبولاً، وأنّ هنالك دولاً مستعدّةً لاستيعاب الفلسطينيين، بالرغم من رفض الأردن ومصر لاستقبالهم. وتارةً أخرى، يصرّح ترامب بأنّه "لا أحد سيطرد الفلسطينيين من غزّة"، ثمّ لاحقاً (خلال استقباله نتنياهو في البيت الأبيض الأسبوع الماضي)، لم يُظهر تراجعاً عن الخطّة، في حين يحاول نتنياهو جاهداً تعريف الإبادة الإسرائيلية الراهنة بوصفها تحضيراً واقعياً لتنفيذ خطّة التهجير.
هل ترامب مرتبك في التعامل مع الموقف المُعقّد؟ هل لا يريد التراجع بصورة واضحة وجلية عن خطّته، أم أنّه مصرّ على الخطّة، ويعطي نتنياهو الضوءَ الأخضرَ لتنفيذها وتحقيقها بالقوة في الأرض، مع عدم التمسّك بأن تكون الأردن ومصر هي الدول التي تستقبل اللاجئين؟ هل يُبقي ترامب الخيارات مفتوحةً، بصورة براغماتية ليحسم موقفه لاحقاً تجاه أيّ "العرضَين"؛ مشروع التهجير أو الخطّة العربية، أيهما أفضل فيعلن قبوله؟... على الأرجح، ونظراً إلى منطق ترامب وشخصيته، فإنّ احتمالاً ثالثاً هو الأقرب للتحليل، ويتعامل مع مصير غزّة، ومع الكارثة الإنسانية اليومية التي تحدث، بمنطق العقارات والربح والخسارة ليس أكثر؛ فلا يغلق الباب تماماً على أيّ احتمال، بالرغم من أنّ ذلك لا يمنع بالضرورة انحيازه (وفريقه اليميني) إلى المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية، والوقوع تحت تأثير التيار اليميني الإنجيلي في أميركا، في ما يتعلّق بالصورة العامّة لإسرائيل والقضية الفلسطينية، فهو ملتزم مخلص للصهيونية بالمبدأ، لكنّه في ما يتعلّق بغزّة، يراقب حتى يقول إنه خرج بأفضل النتائج، التي لن تكون في نهاية اليوم إلّا ما يعتبره في مصلحة إسرائيل وأميركا معاً، والحدّ الأدنى الذي سيقبل به ترامب هو إخراج "حماس" بصورة كاملة من غزّة، وإنهاء وجودها العسكري والسياسي، وتهجير قياداتها العسكرييين والأمنيين والسياسيين (ذلك قد يعني أنّنا نتحدّث عن آلاف الأشخاص من حيث المبدأ - تهجير جزئي)، وإنهاء أيّ تهديد لإسرائيل هناك، وربط ذلك بالتطبيع السعودي الإسرائيلي، واستثمارات هائلة من الخليج العربي مع الولايات المتحدة.
نقطة الضعف الرئيسة في الخطّة العربية أنّها لم تضع خياراً آخر، أو ما تسمّى "الخطّة ب"، في حال رفض بنيامين نتنياهو الخطّة وتجاهلها، كما حصل فعلاً، ولم تتعامل معها الإدارة الأميركية بالجدّية المطلوبة، وهو ما حدث فعلاً كذلك، إذ كان من المفترض أن يقوم وفد وزاري عربي بالتوجّه إلى واشنطن (بعد إعلان الخطّة العربية بفترة قصيرة) وعرضها على الإدارة الأميركية، لكن من الواضح أنّ الأمور لم تسر بهذا الاتجاه. ومن ثم، بقيت الخطة العربية قيد التجميد، وعلى الرفّ حالياً، إلى أن تتضح صورة الموقف في الأرض بدرجة أكبر.
في الطرف الآخر، يدرك نتنياهو حجم الفراغ الاستراتيجي في المنطقة، ويستثمر في الفريق الذي يحيط بترامب (وربّما الأدقّ يختطف الرئيس الأميركي) المؤيّد لإسرائيل، ويمارس الألعاب اللغوية والقفز بين خطّة ترامب، التي يدرك نتنياهو أنّ هنالك رفضاً عربياً وفلسطينياً لها، لينفّذ خطّته الذاتية التي سبق أن قام مكتبه بنشرها، وتقوم على ثلاث مراحل تنتهي بحكم ذاتي في غزّة، لكن من دون عودة السلطة الفلسطينية، ومع إخراجٍ كاملٍ لحركة حماس، ومع وصاية وهيمنة عسكرية وأمنية إسرائيلية كاملة، وهو السيناريو الذي يخطّط له نتنياهو أيضاً في ما يتعلّق بالضفة الغربية.
بالرغم من أنّ خطّة نتنياهو لا تتحدّث بصورة جليّة عن تهجير الفلسطينيين، لكنها تحقّق ما يريده من رفض إقامة دولة فلسطينية، وإنهاء مفهوم المقاومة، وإخراج "حماس" كلّيةً من غزّة، والهيمنة العسكرية والأمنية عليها، وهي نتائج، حتى لو لم تؤدّ إلى التهجير (الذي يحلم به اليمين الديني الإسرائيلي الأكثر تطرّفاً)، تتسق تماماً مع التصوّرات الاستراتيجية التي تحكم المنظور الإسرائيلي اليوم بالكلّية.
عن العربي الجديد