لم يُفاجَئ العالم بالمقاومة الفلسطينية , ولا بقدراتها العسكرية النوعية والمتطورة الصاروخية وغيرها حتى الجديد منها , وهذا متوقع ومنطقي بعد صمود وإنتصار سوريا , وثبات وجهوزية المقاومة اللبنانية , والحضور القوي للمقاومة العراقية , والدعم اللا محدود الذي تقدمه جمهورية إيران الإسلامية ... بل كانت المفاجئة بالمقاومة التي أظهرها أبناء الجيل الفلسطيني الجديد , وأثبت من خلالها أنه متمسك كأسلافه بإستعادة أراضيه المحتلة , وبأنه لا يعرف حدوداً تفصل غزة عن الضفة والقدس عن حيفا ويافا وباقي المدن والبلدات والقرى الفلسطينية , وبأنه جيلٌ رافضٌ لإستمرار الإحتلال وما دعي بـ إتفاق أوسلو وإتفاقية كامب ديفيد برمتها.
كذلك أتت إنتفاضة أهلنا من عرب الـ 48 لتشكل صفعة كبيرة لمن إعتقدوا بأنهم خرجوا من معادلة الصراع والمقاومة بحكم الواقع والتطويق والترهيب الإسرائيلي لهم .. وتبدو مدينة اللد مثالاً واضحاً للتأكيد على قوة وصلابة الإنتماء وعمق الهوية الفلسطينية المتجذرة داخل قلوب الفلسطينيين كحال الأرض والمقدسات.
فقد كرست غزة ، عبر فصائلها المقاومة المختلفة ، حالة الوعي الفلسطيني الجامع لكل فلسطين , وحققت أهدافها في كسر الغطرسة العسكرية لقادة الكيان الإسرائيلي ومستوطنيه ، وفرضت توقيتها وإيقاعها ومعادلاتها الجديدة للإشتباك , وحددت مواعيد إطلاق الصواريخ , ونفذت وعيدها بالزمان والمكان.
لقد بدأ التصعيد الإسرائيلي حملته العدوانية ضد حي الشيخ جراح والعوائل الفلسطينية التي تسكنه , وحاولت إخلائهم ومصادرة منازلهم بالقوة , بالتوازي مع الوحشية التي واجهت بها قوات الإحتلال الإسرائيلي للمتظاهرين في باحات المسجد الأقصى .. مما لا شك فيه أن التصعيد كان مدروساً من قبل حكومة نتنياهو , تحت عناوين أهداف سياسية داخلية , وأهداف عنصرية تسعى لتغيير معادلات "التعايش" , من الواضح أنهم سعوا لإطلاق يد المستوطنين وإعلاء كلمتهم وفرض رغباتهم وشهواتهم الإستيطانية والعدوانية على فلسطيني الحي , من بوابة التهويل والتخويف وحتى العنف والبطش , وبات واضحاً للعالم كله أن الإسرائيليون لا يؤمنون بحل الدولتين والشعبين , ولا بوجود العرب حتى تحت سلطتهم , وأنهم ماضون في سياسة التهجير كما بدأت منذ ما قبل عام 1948.
إن صمود أهالي الشيخ جراح , وإنضمام كافة فلسطيني الداخل ومدنهم وصولاً إلى غزة , دفع قضية ومصير حي الشيخ جراح ليتصدر العناوين الدولية , وليثير الوعي العالمي والتضامن مع الشعب الفلسطيني , الذي يتعرض لأبشع حرب إبادة وتهجير وإضطهاد , في أوقاتٍ كادت تغيب فيها القضية الفلسطينية عن الساحة الدولية , بالتوازي مع هرولة بعض الأنظمة العربية نحو التطبيع وتبادل السفارات , واللقاءات ومشاهد المصافحات , وبعض العبارات المزيفة ... للأسف ساعد المطبعون على إخفاء حقيقة قادة الكيان ومستوطنيه وطبيعتهم العنصرية المتوحشة , وتعطشهم لسفك الدماء الفلسطينية والعربية على حدٍ سواء.
من المؤكد أن حكومة العدو لم تتوقع حجم الرد الفلسطيني الشعبي والعسكري المقاوم , والقدرات النوعية والصواريخ الثقيلة والصواريخ التي يتخطى مداها الـ 250 كم ( صواريخ عياش ), ومع فشل الوساطة المصرية – حتى الاّن – في التوصل إلى وقف لإطلاق النار , واستمرار سلاح الجو العدو الإسرائيلي في قصفه الهمجي على غزة وغير مكان , تبدو المعركة مستمرة , فقوات الإحتلال الإسرائيلي تحاول استعادة هيبتها وقوتها الرادعة التي فقدتها بفضل الصواريخ الفلسطينية التي أطلقتها ولاتزال تطلقها بنجاح من غزة.
وفي خطابٍ هزيل ومتأخر وعلى وقع صواريخ المقاومة في غزة , تحدث الرئيس الفلسطيني بشيء من القوة , والتي كان عليه أن يستند إليها للمضي قدماً في الإنتخابات الفلسطينية , وألا يلجأ إلى تأجيلها , حتى لو أدت إلى خروجه من السلطة وخسارته كرسي الرئاسة , فالمكاسب الفلسطينية في إجراء الإنتخابات كانت ستحرج نتنياهو ومستوطنيه , وستكرس الوجود الفلسطيني الشرعي في القدس أمام أنظار العالم , وتُعرقل التهجير الممنهج الذي يتبعه العدو الإسرائيلي لإفراغ القدس من العرب , فلم يعد الفلسطينيون بحاجة لرجلٍ يمتدحه العدو الإسرائيلي , ويرفض المقاومة المسلحة ويتمسك بالتعاون الأمني مع الإسرائيليين.
إن تعطيل الإنتخابات الفلسطينية كانت هدفاً إسرائيلياً , ويتقاطع مع فشل نتنياهو وخسارته السلطة والحصانة , الأمر الذي سيضعه مباشرةً أمام المحاكم الإسرائيلية ومواجهة أحكام السجن بحقه وبعدد من أفراد أسرته واّخرون.. لذلك كان التصعيد في حي الشيخ جراح مطلباً سياسياً داخلياً إسرائيلياً , وفي الوقت ذاته يلبي شهوات وأحقاد المستوطنين بالإعتداء على أهالي حي الشيخ جراح .
إن تلاحم فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وتوحدها تحت راية الدفاع عن القدس , وإتخاذها قرار المواجهة ورد وردع العدوان جاء بالسرعة المناسبة , ولم يمنح العدو الإسرائيلي وقتاً طويلاً لمغادرة ساحات المسجد الأقصى , ووقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح ... لكن قيادة العدو في تل أبيب أصرت على موقفها وجرّت الجميع إلى المعركة التي يتمناها نتنياهو لتحقيق أهدافه في تأجيل الانتخابات الإسرائيلية , وإنقاذ مستقبله السياسي.
استطاعت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة إثبات مصداقيتها , بتنفيذ وعودها وتواقيتها وبقصف القدس وتل أبيب وعسقلان وأشدود بمئات الصواريخ ... بالتوازي مع فشل المسؤولين الإسرائيليين ومؤسساتهم العسكرية والأمنية , في توقع قوة الرد الصاروخي الفلسطيني.
لقد أظهر القصف الصاروخي الفلسطيني فشل القبة الحديدية في اعتراض جميع الصواريخ محلية ويدوية الصنع , أمام أنظمة الإعتراض الإسرائيلية المتطورة , خصوصاً عندما واجهت أكثر من مئة صاروخ أطلقت في وقت واحد... وعلى الرغم من القصف الوحشي والهمجي الذي نفذه جيش الإحتلال الإسرائيلي على عشرات الأهداف والمواقع ونقاط الإطلاق الفلسطينية , كذلك قيامه بقصف عدة أبراج مدنية في مناطق تجارية وسكنية في غزة , بهدف تأليب السكان ضد الفصائل الفلسطينية التي تتصدى للعدوان.
ومع كل ساعة يرتفع عدد الشهداء الفلسطينيين , كذلك يرتفع عدد صواريخ التأديب والردع الفلسطيني , فقد تمكنت الفصائل الفلسطينية من إطلاق أكثر من 1500 صاروخ , استطاعت النيل من هيبة "عرش" الغطرسة الإسرائيلي , وسط مشاهد الهلع والرعب وإخلاء الكنيست الإسرائيلي , والفرار نحو الملاجئ.
لم تفقد إسرائيل قدرتها على الردع فحسب ، بل فقدت هيبتها أيضاً , وتكبدت الخسائر المالية وبعشرات ملايين الدولارات , نتيجة قصف ميناء أشدود , وتوقف حركة الملاحة الجوية نحو تل أبيب وأبعد من تل أبيب بعد دخول صواريخ عياش المعركة , ناهيك عن الأضرار المباشرة التي تكبدتها نتيجة الإصابات الصاروخية المباشرة , وشلل الحياة الإقتصادية برمتها داخل الكيان , وهروب نحو 70% من الإسرائيليين نحو الملاجئ .
شيءٌ ما تغير في الميدان , ولم تعد معادلات الردع المقاوم على سابق عهدها , وأصبحت "إسرائيل" تتألم بشدة , وتتكبد الخسائر الباهظة , ولم تعد قادرة على إخفاء ضعفها .. مما يعزز الاّمال بإقتراب النصر, وبإقناع المتورطين بالتاّمر على فلسطين عبر التاريخ , بالوقوف ولو على الحياد مبدئياً , فالمواجهة المتكافئة لن تبقي شبراً من الأرض الفلسطينية والعربية تحت نير الإحتلال ... ويكشف في الوقت ذاته قباحة وجوه المطبعين الكالحة , ويسمح بإستبدال مصطلح "التطبيع" بمصطلح "الخيانة" أمام أعين كافة قاطني الكوكب , ومدعي ومروجي "السلام" المزور.
فواتير العربدة الإسرائيلية ..
2021-05-15
بقلم: ميشيل كلاغاصي