خالد الفقيه
عقود مرت وأخرى ستليها لتؤرخ لنجاة ناجي العلي من ذل مرحلة لطالما أرقته وكان له السبق في استشرافها والتنبوء بتفاصيلها ومآلها، كان راداراً راصداً فاق تكنولوجيا العصر الذي عاشه وتلك العصور التي أتت بعده بأدواته البسيطة التي وصفها البعض بالحارقة والكاوية والتي لا تعرف الوسطية والمداهنة أو المهادنة، وعدها البعض سبباً في تغييبه كما كان يتوقع بكاتم الصوت.
وأذكر هنا الراحل الكبير البرفيسور عبد الستار قاسم عندما تناقشت معه في رغبتي في أن تكون رسالتي لدرجة الماجستير حول الوعي الذي أراده ناجي من رسوماته فما كان منه إلا أن شجعني على هذا الاختيار كونه الأول من نوعه عالمياً، وفي ذات الوقت حذرني من صعوبة العمل وتشعبه، وبعد جلسات أقنعته بقدرتي على سبر غور هذا المضمار ورغبتي الجامحة فوافق أن يكون مشرفاً على الرسالة التي حملت عنوان “التنمية السياسية المترتبة على حركة الوعي في كاريكاتير ناجي العلي” والتي أخذت درجة الامتياز وصنفت بنوعيتها في مكتبة الجامعة وبين الأطاريح الأكاديمية، وهي ذاتها التي عولجت لاحقاً لتصبح كتاباً متميزاً حمل إسم “حركة الوعي في كاريكاتير ناجي العلي”. وكان للصديق الكبير الشاعر جهاد أبو حشيش صاحب دار فضاءات الدور الريادي والكبير في تلقف المخطوطة وإصدارها وتوزيعها عالمياً.
وخلال الدراسة الأكاديمية البحثية والبحث في جمع المعلومات والمصادر واللوحات التي خطتها يد الشهيد العلي والتي يقدرها البعض بأربعين ألف لوحة الكثير منها ظل حبيساً في الأدراج لجرأتها وقوتها في النقد والتشريح وهو ما لم تستطع أي صحيفة نشرها في حياتها، وكان لي الحظ في الحصول على بعضها لتكون رسالتي الأكاديمية والكتاب لاحقاً النافذة التي أطلت منهما على الجمهور من المتلقين، بالإضافة للكتاب الثاني الذي صدرته بعدها عن دار فضاءات وحمل عنوان ” بيت لحم والمسيح في كاريكاتير ناجي العلي”، فإنني لا أستطيع إخفاء ما حذرني منه البرفيسور عبد الستار قاسم مما كان يسميه بالسهل الممتنع الذي تميزت به اللوحات الكاريكاتيرية والتي تعكس طبيعة ناجي الشخصية كما تعرفت عليها من المراجع والأصدقاء الذين عايشوه، فهو شخص وإنسان بسيط ولطيف ولكنه حاد حد السكين ولا يعرف المهادنة ولم يغادر قناعاته وتحدى دولاً وتنظيمات وزعامات وشهوة المال، ورفض أن يكون كاتباً في قصر السلطان ولا متعيشاً من المديح ولا إبن سلطة تملك المال والقرار ولا عبداً عند رأس المال، فلم ينقل ريشته من كف لأخر وهو الذي كان ينقد بشدة نقل البنادق من كتف لكتف، تفاصيل كثيرة لا يمكن سردها ولا حتى جمعها لأن كل شخص عايش ناجي الناجي من “وسخ” المرحلة أو كتب عنه لديه تفاصيل قد لا تكون عند غيره. نعم كان عدواً للثقافة المرتهنة للمال والسلطة ويراها شيطاناً لا يقل خطراً عن إبليس النفط، فالمثقف عنده إما أن يكون على يسار السلطة أي سلطة أو أن يكون بوقاً ناعقاً بما يملى عليه.
صحيح أن الرجل رحل ودمه لا زال يؤرق من لم يتحملوه حياً ولا ميتاً ولكن الأصعب كانت لوحاته وحنظلته الذي كان يلكزه كلما حاد أو خيل له أنه حاد عن الصواب والقناعات المسلمة المؤشرة دوماً كبوصلة نحو فلسطين حتى في تلك اللوحات التي خص بها الثورة الفيتنامية والحرب العراقية الإيرانية وغياب الديمقراطية وصراع الطبقات وغيرها.
واليوم في ذكرى رحيله المفجع والمؤلم لن أطرح سؤالاً يكرره الكثيرون في مثل هذه المناسبات: ماذا لوكان ناجي حياً اليوم؟ ماذا كان سيرسم؟ وأية مواقف سيتخّذ؟ لأنني وبالاستناد لما جمعته أعتقد أن نجاته بالموت أراحته من ثقل السؤال ورمت علينا نحن من بعده الثقل فهو تميز بالإستشراف والنبوءة وهنا سأعدد بعضاً مما إستوقفني في إرثه أو ما وصلت إليه منه: الراحل تنبأ بالإنتفاضة الأولى 1987 والتي إندلعت بعد إستشهاده بأشهر، الحكم الذاتي ومفاوضات التسوية ودخول منظمة التحرير فيها، جدار الفصل العنصري، التطبيع ودور النفط في العربي فيه، المؤامرة الكونية على سوريا وليبيا والعراق والوطن العربي وبعضها حدث وأحداث أخرى قد تأتي لاحقاً، تعطيل التوجه لتحرير فلسطين، تجريم المقاومة بحجة تعكير صفو العلاقات مع إسرائيل، التشرذم على الساحة الفلسطينية والإقتتال، وغيرها الكثير الكثير، ولكنه بشر في مواقع كثيرة بفجر تحرير وردم لحفر التسوية والتنازل عاقداً الرهان على أجيال المستقبل.
ويحسب لناجي أن كل لوحة من لوحاته تحتاج تحليلاً عميقاً يحلل الخطوط ويفكك العلاقة بين الأسود والأبيض الذي جالت ريشته بين ثناياه وفي هذا الإطار كان لا بد لي كباحث من إستخدام منهجية تحليل المضمون للمحتوى والمراد منه للخلوص إلى إستنتاجات علمية تثبت أن ناجي كان مؤذناً في الناس على مدار الوقت ليزيلوا عنهم إثم المرحلة عاقداً الأمل عليهم.
نعم ناجي حارب التطبيع فاغتاله المطبعون فتسربل بدمه وعبثاً حاول القتلة إخفاء إرثه وتغييبه فحنظلة ورسوماته عاشت كل هذا الزمن على ردته وردائته نستحضرها كلما ألمت بنا الملمات والمصائب لنعيد نشرها ونستشهد بها في التحليل والنقد، فهو المحارب الذي امتشق الريشة فكانت سلاحه الذي لا يصدأ ولا يعرف الكلل أو الملل وسافرت نتاجاته نحو العالم بأفق قومي وإنساني لتتخطى حواجز اللغات والثقافات، وكأني به هناك حيث يرقد غير مرتاح بين ضباب مقبرته اللندنية يعزي نفسه بأن الشجرة التي تركها في الجليل الأعلى لا زالت على حالها بانتظار أن يتدثر بترابها عظامه، ولكأن لوحته الأولى التي رآها الشهيد الأديب غسان كنفاني وأعاد نشرها لازالت تشحذ جسده بأن خيمة المخيم التي تنبلج منها يد الثورة والإنتفاض المصممة على التحرير الحلم الذي لم يكتمل بعد هي الطريق الوحيد ليحمل الجسد ليرتاح تحت تراب الوطن.
ناجي ضحية الاغتيال بكاتم الصوت، عرف أن الخط الأحمر الذي خطه لنفسه حينما قال ” كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطاً أحمراً واحداً أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة إستسلام وتنازل لإسرائيل”. فهو لم يكن يرسم الأحجيات والألغاز ولا يحرق البخور كالعرافين وليس مهرجاً أو شاعر قبيلة، بل كان نداً للجميع ومحارباً للفساد والفاسدين ولا يهادن، كان منحازاً ولم ينف ذلك بل إعتز بالانحياز كتهمة عندما قال:” أنا منحاز لمن هم تحت الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات”.
وفي عالم السفر عبر الزمن الإفتراضي بعدما نهلت من إرثه دون شبع وبنهم وجدتني أسأله وهو يستريح فوق ضريحه بنفث دخان سيجارته مكتئباً وهو يتابع التفاصيل الدقيقة لما وصل إليه حال شعبه وأمته وبني الإنسنان عموماً هل كان كل ذلك يستحق إهراق دمك؟ لما لم تنحن تكتيكياً على الأقل حتى تتغير المرحلة والظروف؟ همهم وتوقد زهر السيجارة في فمه وأجاب دون التفات –كحنظلة الذي لا زال ظهره لنا- “ولدي حنظلة وفي لفلسطين ولن يسمح لي إلا بالوفاء كان ولا زال يلسعني كلما جال بخاطري التراجع أو الندم، ففهمي للصراع أن أصلب قامتي كالرمح وأن لا أتعب ولن أتعب”. أخر ما سمعته منه قبل أن يعود وأعود.
أربعة وثلاثون عاما في حضرة الغياب أو التغييب لناجي ولا زال حنظلة لم يغادر قبلته ولا محرابه يلهم كل من ينهلون من تدفقه اللامتناهي دون ارتواء… طبت حياً وطبت في عليائك الذي اعتليته بدمك الذي لم يجف بعد.