كتب سمير الفزاع
عندما تتسارع الأحداث، وتتشابك الوقائع، ويطلق الإعلام العنان لماكيناته الضخمة كي تحول الهزيمة الواقعة إلى نصر مفترض، والتراجع إلى تقدم، والتفكك إلى بناء مستمر... من الحكمة، أن نركز النظر والإهتمام على العناوين الرئيسية للصراع، وميادينه الحقيقة، والحال الفعلية لأطراف هذا الصراع، بعيداً عن التهويل والتقليل. وهذا يتطلب عقل منفتح على حقائق التاريخ، والحركية المستمرة للواقع السياسي؛ فلا إستمرار لموازين القوى التي حكمت عالم الأمس في الغد، وحتمية إنتقال الفضاء الأمبراطوري من عواصمه اليوم إلى عواصم أخرى غداً... .
ضمن هذا الإطار النظري- الواقعي، عنوانان كبيران سيكون لتطوراتهما الدور الأبرز في تشكيل وجه الإقليم والعالم، وسيكون للهيئة التي تتوضع عليها خواتيمهما الدور الحاسم في رسم صورة المستقبل، الواقع الميداني للحرب على سورية، والصراع على الطاقة. لكن، لضخامة العنوانين سأنطلق من عنوان الحرب على سورية، مركزاً البحث على أسباب تراجع داعش، ومستقبل مبادرة دي مستورا.
الحرب على سورية:
ينضوي هذا العنوان الواسع على عدد كبير من العناصر والمتغيرات، ويرتبط بالشكل الذي ستنتهي عليه هذه الحرب عدد كبير من القضايا الكبرى في المنطقة، كمستقبل الصراع العربي الصهيوني، وحدة العراق ولبنان واليمن الاردن... وسلامة كياناتهم، إنتقال سلس للسلطة في مملكة آل سعود، تدفق مستمر وآمن للطاقة... . تأسيساً على ما سبق، سأركز على الجهد العسكري الذي تبذله سورية وحلفائها في الميدان، للإنتصار بهذه الحرب، ما سيسمح لها بأن تكون فاعلة في رسم وجه المنطقة والعالم، وحاضرة في التأسيس لخواتيم كل تلك القضايا الكبرى التي ذكرتها آنفاً، عبر بوابة الفعل الميداني.
* الواقع الميداني:
1- تداعي مقولة الوطنية والإعتدال:
بعد إنهيار تجربة "الجيش الحر" كأداة ميدانية-سياسة للحرب على سورية، تشظت الأدوات الإرهابية المسلحة إلى عدد كبير من الفصائل التي تتصارع للسيطرة على الأرض، وتلقف الإمدادات العربية والغربية، والإمساك بالمعابر والطرق، والمسروقات... ما أتاح لجبهة النصرة "وراثة" هذا الجيش الإرهابي، وإحداث تبدل شامل لهوية الأدوات الإرهابية، من صيغة تدعي الوطنية والعلمانية إلى صيغة إسلاموية متطرفة. لم يمض وقت طويل لتظهر –ميدانيّاً- الأداة الأكثر تطرفاً وإرهاباً، داعش. لقد هُزمت النصرة في كل النقاط التي قرّر الجيش العربي السوري وحلفائه تطهيرها، في دمشق وغوطتها والقلمون وحمص وريفها وحلب وريفها... فكان من الضروري وقف إنهيار حربهم على سورية، وإن بأكثر الأدوات إجراما وتطرفاً، وأقلها قبولاً وجاذبية، داعش. إن "البحث المضني" الذي تقوم به واشنطن للعثور على بضعة ألاف من "المقاتلين المعتدلين" من بين عشرات ألاف الإرهابيين الذين يُقاتلون الجيش العربي السوري، وإخضاعهم لإختبارات CIA وتقييماتها يؤكد هذه الحقيقة، تداعي مقولة الوطنية والإعتدال.
2- داعش، وحش يقزمه الواقع:
في 5/12/2014، ينشر معهد "دراسة الحرب العالمي" (ISW) خريطة محدثة حتى تاريخ النشر، تظهر واقع سيطرة "داعش" في سورية والعراق. أظهرت الخريطة التي قدمها واحد من أبرز المعاهد المعنية بمتابعة مناطق الحروب والبؤر الساخنة في العالم، صورة مذهلة عن سيطرة داعش، تتنافي تماماً مع الصخب الإعلامي الذي يغلف الحركة الميدانية لهذا التنظيم، ويثير تساؤلات جدية عن أسباب تحرك واشنطن وحلفها في المنطقة تحت غطاء محاربته. تظهر الخريطة سيطرة محدودة جداً لداعش في سورية، تنحصر في شريط ضيق حول نهر الفرات وعاصمته مدينة الرقة، وشريط آخر يمتد بالقرب من الحدود التركية، ونقطة قريبة من حقل الشاعر في بادية تدمر. وظهرت المناطق التي تهاجمها داعش على شكل جزر معزولة بتواجد نقطي في أرياف حمص ودير الزور وحلب والحسكة، ولا تشكل أي خطر إستراتيجي. وهذا رابط الخريطة في الموقع المذكور: http://www.understandingwar.org/.../isis-sanctuary-map... .
3- أسباب ومظاهر تراجع داعش وبقية الأدوات الإرهابية:
# الإنتصار الأهم لداعش كان في العراق، وتحديداً في محافظة نينوى، عندما تمّ تسليم المحافظة وعاصمتها الموصل لداعش بدون أن تطلق رصاصة تقريباً، وهناك إستولت على مئات الملايين من الدولارات، وكميات ضخمة من الدبابات والآليات المدرعة والذخائر والمعدات... وهناك تمّ وضع اللمسات الأهم على هالة الوحش الذي لا يقهر. أي أن إحتلال الموصل، كان عملية التسليح والتمويل الأضخم، واللحظة الهوليودية الأكثر صخباً، والأداء الإستخباري الأوضح الذي تقوم به واشنطن، وبشكل علني ومباشر، لإشهار ودعم والترويج لواحدة من أكثر أدواتها إجراماً وإرهاباً. من هنا لا يمكن القياس على بدايات داعش القوية في العراق وسورية، لأن العبرة في السيطرة على الأرض تكون في التمدد المستمر، أو المحافظة على ما تم السيطرة عليه في الحد الأدنى.
# بعد خوض داعش معارك ناجحة في الرقة، وقيادة الفرقة 17، وعين عيسى... بدأ مسلسل تعثرها؛ بل وخسائرها في الظهور. مجريات الميدان تؤكد بأنه سيكون لمعارك عين العرب وحقل الشاعر ودير الزور ذات التأثير الذي تركته معركة العلمين على مجريات الحرب العالمية الثانية؛حيث تعرضت ألمانيا لسلسلة من الهزائم القاسية بعد هذه المعركة، وكانت هي المقدمة الحقيقة لإنزال النورماندي الشهير، الذي هيأ المشهد لإتفاق يالطا 1945.
# إمتلك الجيش العربي السوري خلال سنوات محاربته الأدوات الإرهابية على مدار أربعة أعوام تقريباً، خبرات إستخبارية هائلة، وباقة متنوعة جداً من المهارات الميدانية، والتكتيكات القتالية والخيارات النارية... وتمكنه من حفظ الأساليب الحربية لهذه الجماعات الإرهابية عن ظهر قلب، أهلته لفرض إيقاع المعركة بالشكل الذي يريد... مرة يثبت خطوط النار، وأخرى يقضم ببطء، وثالثة ينفذ هجوماً صاعقاً، ورابعة يحاصر ويخنق... .
# بعيداً عن الإعلام، بدأت دوائر إستخبارية إقليمية ودولية، معنية بمكافحة هذه الجماعات الإرهابية بسبب خطرها المتنامي، تتبادل المعلومات مع سورية بشكل مباشر وغير مباشر.
# تراجعت المبالغ المالية التي تحصل عليها داعش من عمليات بيع للنفط المستخرج من الآبار التي سيطرت عليها في سورية والعراق نتيجة الغارات الجوية التي ينفذها سلاحا الجو السوري والعراقي، وتحالف واشنطن، وتمّ تدمير معظم المصافي والآبار التي تسيطر عليها داعش، وقتل أو هرب العدد الأكبر من العمال والفنيين القادرين على إدارة الحقول والمنشآت النفطية التي سيطر عليها التنظيم في سورية والعراق.
# مقتل معظم قيادات الصف الأول من أصحاب الخبرات القتالية والتاريخ الإرهابي الطويل، وإنعكاس ذلك تناحراً بين القيادات البديلة، وفشل في كثير من المعارك، وإنهيار القدرة على التمسك بالأرض، وإرتفاع في مستويات الإختراق الإستخباري السوري والعراقي والغربي... لصفوف داعش.
# صعوبة التواصل في التطبيقات الألكترونية الذكية والهواتف المحمولة بسبب تنامي قدرة الجيشين السوري والعراقي على إختراقها، وبالتالي التعطل أو التأخر في تنفيذ العمليات العسكرية والردود الميدانية الآنية، والتسرع بالاجتهادات الميدانية غير المدروسة.
# تعدد محاور القتال وإتساع جغرافية المعارك، وتكرار محاولات مهاجمة وحصار القوات النظامية، التي تحتاج الكثير من "الإنغماسين" والزخم الناري والعمليات الأنتحارية، أستنزف الإرهابيين وأسلحتهم وذخائرهم من جهة، وصعوبة تعويض تلك الإمكانات من جهة ثانية.
# لم يعد بوسع تشكيلات داعش، آليات ومشاة، التحرك بأرتال كثيفة وكبيرة كما كان الأمر في السابق بسبب ملاحقة سلاح الجو لها، ممّا حدّ من حرية الحركة والمناورة، حتى غدت السمة الأساسية لمعاركها التخندق واللجوء للإستحكامات.
* دي مستورا، والسبع العجاف:
الكثير من أحداث عالمنا مترابطة، مرة يكون الخيط/الخيوط غليظة فنراها، وأخرى تكون رفيعة فلا نلقي لها بال، ولكن تبقى هذه الخيوط فاعلة مؤثرة في الحالتين. أصبح واضحاً أن الحرب على سورية مرتبطة بصراع كوني شامل يؤسس لإنتقال هذا العالم من مرحلة تاريخية لإخرى، من هذا الباب، على الأقل، يجب أن نلتفت لما يجري حولنا لنعرف كيف، وإلى أين نمضي، وعلى أي نحو سيكون هذا الإنتقال؛ بحرب باردة أم مشتعلة أم بإتفاق يالطا جديد. ومن أهم هذه الأحداث:
1- فكّ الإعتصام في هونغ كونغ بالقوة، وفشل محاولة إستنزاف الصين (الظهير السياسي والمالي الضخم لروسيا وشريكتها في صناعة عالم متعدد الإقطاب، وأحد أهم شركاء سورية في إعادة الإعمار) بربيع يدمر واجهتها المالية والصناعية-التقنية الأهم.
2- العودة المفاجئة للعلاقات الكوبية-الأمريكية بعد صراع دام لأكثر من نصف قرن، ما يؤكد تراجع واشنطن كونيّاً، ورغبتها في إعادة ترتيب العلاقات مع مجالها الحيوي المباشر.
3- تخلي واشنطن عن قيادة الأسطول الخامس في البحرين، وتسليمها لبريطانيا من جهة، والمبادرة الفرنسية لطرح مشروع في مجلس الأمن "يعالج" المفاوضات الفلسطينية الصهيونية من جهة أخرى، يدلل على رغبة واشنطن في "إشراك" حلفائها في تحمل الأعباء الأمنية والسياسية والمالية... بسبب الإستنزاف المالي والأمني والسياسي الذي تعانيه، وتراجع قدرتها على تحمل أعبائه الهائلة.
4- أعلان الرئيس الأوكراني بوروشينكو تأجيل إنضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الاوروبي حتى العام 2020، وان السلام يمكن تحقيقه خلال ثلاثة اسابيع مع "الانفصاليين" في مينسك اذا "سحبت" روسيا قواتها من اوكرانيا واغلقت الحدود.
5- إستقبلت طهران، التي حذرت أنقرة مسبقاً من أي تدخل عسكري أو إقامة منطقة حظر جوي في سوريا، وزير الخارجية التركي "جاويش"، بالتزامن مع وجود رئيس الوزراء السوري، ورئيس مجلس النواب العراقي. وفي الخلفية كانت "أزمة الشاحنات" بين طهران وأنقرة، والتي تهدد بمحاصرة ممرات تركيا التجارية بطريقة ذكية مستغلة فقدان تركيا لممراتها في مصر وسوريا، والان ايران، وغداً ممر العراق ربما... ما يجعلها أسيرة سياساتها العدوانية تجاه سورية والمنطقة.
6- الإنتخابات الرئاسية في أمريكا ستعقد يوم الثلاثاء 8/11/2016، أي أن واشنطن ستدخل "السبات" الإنتخابي قبل هذا الموعد بأشهر، وهو وقت قريب نسبيّاً (عام تقريباً) من الموعد المحدد للتوقيع على إتفاق نووي مع ايران. سيكون هذا الإتفاق، والإنفتاح على كوبا، والقضاء على داعش، وعقد التفاهمات مع روسيا وسورية... أقوى أوراق الديموقراطيين للفوز في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، ولإستمرار نهج أوباما في "إنقاذ" واشنطن من الإنهيار المحتم.
7- تأتي مبادرة دي مستورا في سياق تطورات ميدانية غاية في الأهمية، أولها إتمام الطوق حول مدينة حلب، ومحاصرة الكتلة الإرهابية الأكبر حول دمشق في دوما، وأفول نجم داعش في شمال وشرق سورية... هذه التطورات هي من سيرسم أفق وتفاصيل المبادرة، لذلك رفضت القيادة السورية وجود أي قوات دولية في حلب، ومدّ مفاعيلها إلى ريف حلب والشمال السوري، وربطت قبولها بالمبادرة بإغلاق الحدود التركية في وجه الإرهابيين.
* كلمة أخيرة:
صحيح أن الوضع دقيق... والسبب في ذلك أننا بتنا نُطل على خواتيم الحرب على سورية أو إنفجار يطيح بالإقليم، وصرنا والقوى المعتدية قريبون جداً من حافة الهاوية. التاريخ يخبرنا بأننا الأفضل في اللعب على حافة الهاوية، وما زلنا. والخيار الأقرب لمنطق الأمور هو التسليم بإنتصار سورية، وما عدا ذلك، كبرياء أرعن يحاول "تجاهل" تطورات الميدان، ومنورات سياسية، ولعب على الوقت، وتثقيل لملفات التفاوض... لكن الحسم الميداني سيكون الصخرة التي توقظ الجميع.
إنهيار داعش، وخطة دي مستورا!!!
2014-12-21