على رغم تصاعد الأصوات المعارضة داخل إسرائيل، سواء من الشارع أو من داخل المؤسسة العسكرية للتوصل إلى صفقة تبادل تضمن الإفراج عن بقية الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة يصر رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المضي قدماً في خيار الحرب، متجاهلاً الدعوات إلى وقف القتال، فخلال خطابة قبل أيام شدد على تمسكه بمواصلة العمليات العسكرية في قطاع غزة، بل والسعي إلى توسيعها. وعلى رغم تزايد الشكوك وما يدور في الكواليس بين الدبلوماسيين وصناع السياسات حول قدرة الحكومة الإسرائيلية على تحقيق أهدافها من هذه الحرب الطويلة والمكلفة في ظل تعقيدات ميدانية وسياسية عميقة كشفت تقارير إسرائيلية عن خطط عسكرية جديدة تهدف إلى فرض السيطرة الكاملة على قطاع غزة، وصولاً إلى احتلاله بالكامل، مما سيضع إسرائيل وفق محللين، أمام مسؤوليات مباشرة تجاه السكان المدنيين في القطاع، ويفتح الباب على مصراعيه أمام تحديات إنسانية وسياسية وأمنية غير مسبوقة، خصوصاً أن هذه التحولات لها تداعياتها المحتملة محلياً وإقليمياً إلى جانب كلفة تقدر بـ5.3 مليار شيكل (1.4 مليار دولار) سنوياً.
ووفقاً لموقع "واللا" الإسرائيلي فإن الاستراتيجية المحدثة الهادفة إلى تقويض قدرة حركة "حماس" على السيطرة على القطاع التي يستعد لها الجيش حالياً عبر تنفيذ "توغل كبير وواسع" جديد في قطاع غزة يتضمن توسيع العمليات البرية وتقطيع أوصال مدينة غزة، ستتطلب "تجنيداً واسعاً لقوات الاحتياط، وسحب وحدات من جبهات أخرى مثل الشمال (لبنان وسوريا) والضفة الغربية"، إلى جانب "توزيع المساعدات الإنسانية مباشرة عبر شركات أميركية لتقويض سيطرة (حماس) المدنية"، في حين أشار استطلاع رأي حديث أجرته القناة الـ"12" الإخبارية الإسرائيلية، نشر أواخر الشهر الماضي، إلى أن 62 في المئة من الإسرائيليين، الذين شملهم الاستطلاع، أعربوا عن تأييدهم صفقة يتم بموجبها إطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين، دفعة واحدة، مقابل إنهاء القتال وسحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، بينما عارض 21 في المئة فقط إنهاء الحرب.
عواقب عديدة
وفقاً لمحللين إسرائيليين فإن الوجود المطول في الميدان الذي من شأنه أن يزيد من إمكانات جمع المعلومات الاستخباراتية، ويساعد في تحقيق إنجازات عملياتية نوعية ضد "حماس" يضعف قدراتها، سيفتقر إلى الشرعية بين سكان قطاع غزة وعلى الساحة الدولية. وعلى رغم أن الغزو في حد ذاته سيكون معقداً للغاية، فإن الكاتب الإسرائيلي تامير هايمان رآه ممكناً، "إذا ما تم الاستيلاء على كامل المنطقة وتطهيرها فوق الأرض وتحتها، عبر حملة شاملة تعيد توزيع القطاع إلى قطاعات إقليمية، وتعيين ممثل للحكم العسكري لكل مدينة وحي تعمل إسرائيل على رفاهية سكانه، عبر تأمين المأوى وتوزيع الغذاء والخدمات الطبية للنازحين، مع الاستجابة لكل الحاجات المدنية وفقاً للطريقة التي تعمل بها الإدارة المدنية".
في المقابل رأى كثر أن الحكم العسكري، فضلاً عن كلفته الاقتصادية العالية، ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الإسرائيلي، إذ من المتوقع أن تحتاج عملية عسكرية واسعة النطاق كتلك التي يجرى الحديث عنها حالياً إلى خمسة ألوية إقليمية في قطاع غزة، ولواءين إقليميين آخرين خارجه، وهو تشكيل عسكري يتألف مما بين 15 و21 كتيبة، ومماثل للتشكيل العسكري المتمركز في الضفة الغربية، والذي يعد أكبر بأربع مرات من التشكيل المخطط للحدود الشمالية، مما يتطلب وفقاً لخبراء وعسكريين، الاعتماد على قوات الاحتياط الذين قد يؤدي غيابهم المطول عن القطاع الإنتاجي إلى ضرر جسيم بالاقتصاد الإسرائيلي بصورة غير مباشر، إذ قالت هيئة البث الإسرائيلية إن الكلفة المباشرة لرواتب جنود الاحتياط تقدر بنحو 5 مليارات شيكل (1.38 مليار دولار) شهرياً، تضاف إليها كلفة فقدان أيام العمل لهؤلاء الجنود، والتي تقدر بنحو 1.6 مليار شيكل (444.12 مليون دولار).
وبحسب صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية، فإن كلفة تجنيد قوات الاحتياط التي تقدرها وزارة المالية الإسرائيلية بملياري شيكل (541 مليون دولار) أسبوعياً، أعلى بكثير من تلك التي يقدرها بنك إسرائيل، الذي أشار إلى أن كلفة فقدان أيام العمل نتيجة تعبئة قوات الاحتياط تقدر بنحو 500 مليون شيكل (138 مليون دولار) أسبوعياً، في وقت قدرت وزارة المالية الإسرائيلية الكلفة المباشرة ليوم الاحتياط بين دفع الأجور والمعدات والطعام وغيرها، بمبلغ 70 مليون شيكل (19.43 مليون دولار) لكل 100 ألف مجند.
ووقع آلاف من جنود الاحتياط والمتقاعدين العسكريين الإسرائيليين أخيراً، بما في ذلك وحدات النخبة من الاستخبارات والكوماندوس، إضافة إلى وظائف مدنية، رسائل عامة تدعو إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لإعادة جميع الرهائن، حتى لو كان ذلك على حساب إنهاء الحرب. وبحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فإن عدد الموقعين على عرائض لوقف الحرب وإعادة الأسرى تجاوز 100 ألف في خمسة أيام، مشيرة إلى أن أزمة الاحتجاجات في صفوف قوات الاحتياط أكبر بكثير مما يتم الإعلان عنه.
بدائل استراتيجية
على رغم أن إعادة فرض الاحتلال المباشر والإدارة العسكرية على قطاع غزة بهدف تفكيك بنية "حماس" ونزع سلاحها، هو أحد أبرز البدائل الاستراتيجية التي أعدها "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، والتي قد تفضي، حسب تصورات في أوساط النخبة الأمنية الإسرائيلية في شأن مستقبل غزة، إلى تعزيز الاستقرار الأمني والاستخباراتي على المدى القصير، فإنه يتطلب كماً هائلاً من الموارد العسكرية والاقتصادية، ويعرض إسرائيل لأخطار سياسية وقانونية، إلى جانب تحميلها كامل تبعات الاحتلال، فالحكم العسكري قد يؤدي إلى تراجع فرص التطبيع مع العالم العربي، ويصعد التوتر مع دول الجوار، كما أن الإبقاء على الاحتلال في قطاع غزة من شأنه وفقاً للتحليلات، أن يعيد إنتاج فصائل فلسطينية، ويبقي حركة "حماس" تهديداً عسكرياً على المدى الطويل من خلال أنفاقها التي باتت جزءاً من بنيتها العسكرية الممتدة لعشرات الكيلومترات تحت الأرض، إذ تعمل على تجميع الأسلحة وتدريب نشطائها، مما يمثل معضلة استراتيجية عميقة بالنسبة إلى إسرائيل، ينعكس سلباً على قدرتها على إعادة سكان المستوطنات الجنوبية إلى غلاف غزة.
قد يعارض عديد من البلدان باستثناء الولايات المتحدة إعادة احتلال قطاع غزة باعتباره عملاً غير قانوني، كما أن المقاطعة الأوروبية لإسرائيل ستتفاقم تزامناً مع تكثيف موجات معاداة السامية ضد المجتمعات اليهودية في مختلف أنحاء العالم. وفي ظل التحديات الأمنية والسياسية المتفاقمة للحكم العسكري، بات تشجيع التهجير الطوعي أحد أهم البدائل الاستراتيجية الرئيسة في شأن مستقبل قطاع غزة، والتي تقوم على إفراغ القطاع من سكانه، وتحويله إلى منطقة استثمارية برعاية أميركية، بينما تتولى إسرائيل مسألة التهجير.
وعلى رغم الجدل الواسع حول ما إذا كانت هذه الرؤية تمثل سياسة فعلية أم مجرد أداة ضغط، فإن احتمال تنفيذ هذه الرؤية بالنظر إلى التحديات اللوجيستية المرتبطة بها تبقى ضئيلة، وإلى جانب الرفض المطلق من قبل الدول العربية، للخطة، وما قد تشكله من تهديد مباشر لأمنها القومي، لا توجد مؤشرات واضحة على استعداد أي دولة لتحمل عبء استيعاب سكان غزة.
وقد حذر الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي عوفر جوترمان من التبعات القانونية والسياسية الخطرة في تطبيق خطة التهجير، إذ إن غطاء "الطوعية"، وفقاً للباحث، سيعد صورة من صور التطهير العرقي، وقد يؤدي إلى فرض عزلة دولية على إسرائيل وتعريضها لعقوبات محتملة.
المصدر: اندبندنت عربي | رغدة عتمة