2024-11-30 06:33 م

إرث تشافيز يواجه شبح الحرب الأهلية

2017-08-03
وسام متى
الصراع القائم في فنزويلا مرشح إلى مزيد من التصعيد. انتخابات الجمعية التأسيسية، التي جرت يوم الأحد الماضي، دفعت بالأزمة السياسية إلى مستوى أكثر خطورة، يتجاوز الاستقطاب الداخلي الحاد بين اليمين واليسار، ليتحوّل إلى حرب مباشرة بين «الثورة البوليفارية» والولايات المتحدة.

ولعلّ المواقف والتحرّكات التي أعقبت الانتخابات المثيرة للجدل، والتي يسعى الرئيس نيكولاس مادورو، من خلالها إلى تحصين «الثورة البوليفارية»، وحمايتها من «المؤامرات التخريبية»، تشي بأن فنزويلا تقف اليوم عند حافة معركة مصيرية، تتجاوز حدود تلك الدولة اللاتينية «المتمردة»، لتحدد مستقبل اليسار في أميركا الجنوبية لسنوات عدّة.
ويبدو أن الولايات المتحدة حسمت خيارها بخوض المعركة الكبرى ضد اليسار اللاتيني، من البوابة الفنزويلية، في ظل توجهات أكثر عدائية تنتهجها إدارة دونالد ترامب، لاحت بوادرها سريعاً، منذ دخول الرئيس «الجمهوري» إلى البيت الأبيض، حين قرر الانقلاب على الخطوة التاريخية التي اتخذها سلفه «الديموقراطي» باراك اوباما، بإنهاء القطيعة التاريخية مع كوبا.
وإذا كان الانقلاب على الانفتاح على كوبا، يشكل خطوة رمزية بشأن النيات الترامبية الأوسع نطاقاً، فإنّ الأمر يبدو أكثر خطورة في التصعيد ضد فنزويلا، فالأخيرة شكلت، منذ نهاية التسعينيات، القاطرة السياسية والاقتصادية لليسار الأميركي اللاتيني، في كل الانتصارات التي حققها خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ابتداءً من البرازيل وبوليفيا، وصولاً إلى الأرجنتين والبرازيل، وغيرها من الدول التي نجح اليساريون في انتزاع حكمها من اليمينيين، على اختلاف توجهاتهم.
على هذا الأساس، فإنّ الولايات المتحدة تجعل من استهداف فنزويلا، اليوم، البند الأهم في خطة الانقضاض على المد اليساري في أميركا اللاتينية، وبالتالي سدّ نوافذ الأمل، التي فتحها اليساريون أخيراً ــ بعد سلسلة انتكاسات ــ سواء في الإكوادور، حيث خاض اليساري لينين مورينو، معركة شرسة ضد اليمينيين، انتهت بفوزه بانتخابات الرئاسة، أو في البرازيل، حيث يستعدّ الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، لخوض معركة رئاسة، لا تقل ضراوة، ضد المعسكر اليميني، الذي نجح، قبل أشهر، في تنفيذ «انقلاب سياسي» على الرئيسة ديلما روسيف.
انطلاقاً من ذلك، فإن الدور الخارجي في الأزمة السياسية القائمة حالياً في فنزويلاً، بدأ يتجاوز الدعم السياسي والمالي للمعارضة اليمينية، باتجاه خطوات عدائية مباشرة، عبر مسارين، أحدهما سياسي، والآخر اقتصادي، لتحقيق هدف واحد، هو تقويض النظام اليساري، بشكل تدريجي، قبل إسقاطه بضربة داخلية قاضية.
وفي الجانب السياسي، لم يعد خافياً أن الولايات المتحدة ماضية قدماً في إيجاد الأداة الداخلية القادرة على القيام بانقلاب لا يكتفي بإزاحة مادورو، كشخص، بل يتجاوز ذلك نحو القضاء على «الثورة البوليفارية».
ويبدو واضحاً أن الإدارة الأميركية لا تملك حتى الآن الأدوات الكفيلة بتحقيق وصفتها التقليدية بإسقاط الأنظمة الأميركية اللاتينية عبر انقلاب عسكري، وخصوصاً أن الجيش الفنزويلي، لا يزال حتى الآن، في موقع المدافع عن النظام اليساري، لأسباب عدّة، تعود إلى إرث هوغو تشافيز، الذي قدم من المؤسسة العسكرية إلى السلطة السياسية منتخباً، وتمكن خلال سنوات حكمه من تحييد مخاطر النزعات الطموحة للجنرالات وكبار الضباط، حين تمكن من تطهير الجيش الفنزويلي من بعض هؤلاء، وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، التي دعمتها الولايات المتحدة في عام 2002، ونجح في إدماج البعض الآخر داخل مؤسسات الحكم، سواء في الحكومة الاشتراكية أو في مؤسساتها، بما في ذلك الشركة الوطنية للنفط («بي دي في أس آيه»).
بذلك، لم يكن مستغرباً قيام وحدات عسكرية بحماية مراكز التصويت في انتخابات الأحد الماضي، من الهجمات العنيفة التي خططت لها المعارضة اليمينية، ونفذت بعضها فعلاً.
وبرغم ذلك، فإن الخطر ليس غائباً تماماً، وخصوصاً أن احتدام الأزمة السياسية، وتفاقم حالة الاستقطاب الداخلي، يجعلان المؤسسة العسكرية بين سندان اليسار ومطرقة اليمين، وهو واقع بدأت تعكسه تصريحات إعلامية ــ لا تزال خجولة ــ يبدي فيها عدد من العسكريين تململاً من الوضع المتوتر السائد في البلاد.
انطلاقاً من ذلك، فإنّ الولايات المتحدة لا شك في أنها تنظر الى التصعيد السياسي والشعبي، الذي تنتهجه المعارضة اليمينية، كبديل من الانقلاب العسكري، لتقويض شرعية النظام الحاكم من جهة، واستنزافه من جهة ثانية، بما يخلق المناخ المناسب لتحرّك ما، سياسي أو عسكري، في اللحظة المناسبة، لإسقاطه بالضربة القاضية.
والواقع أن تلك الخطة الداخلية بدأ تنفيذها بالفعل، منذ بداية عهد نيكولاس مادورو، التي اتخذت في بادئ الأمر عمليات ممنهجة لإظهار فشل النظام الاشتراكي، من خلال حملات دعائية منظمة، شنتها الآلة الإعلامية الضخمة ــ والمؤثرة ــ التي يمتلكها المعارضون اليمينيون، وأنشطة اقتصادية مشبوهة، استهدفت إظهار عجز الحكومة عن حماية الأمن الغذائي، من خلال قيام محتكرين بحجب السلع الاستهلاكية، تزامناً مع انخفاض الأسعار العالمية للنفط، والتي أدّت إلى تراجع الإيرادات العامة للدولة الفنزويلية، وحالت دون تنفيذ العديد من البرامج الاجتماعية التي شكلت الدعامة الرئيسية للحكم اليساري.
ويرى البعض أن هذه المخططات لم تكن لتؤتي ثمارها، لولا أن الرئيس الراحل هوغو تشافيز، تجنب توجيه ضربة قاسمة للنخب الرأسمالية النافذة في البلاد، وذلك لأسباب عدّة، معظمها يتعلق بحرصه على تحقيق المصالحة الوطنية، برغم إدراكه أن تلك النخب شكّلت تاريخياً شكلاً من أشكال «الدولة العميقة»، التي أسهمت في إسقاط معظم النظم التقدمية في أميركا اللاتينية.
هذا الأمر يفسّر، إلى حدّ كبير، إصرار نيكولاس مادورو، على المضي قدماً في تشكيل الجمعية التأسيسية، التي ستعدّل دستور عام 1999، باعتبارها الفرصة الأخيرة لتصويب وجهة «الثورة البوليفارية»، وتحصينها من منظومة النخب، التي عادت لتبرز أنيابها، منذ أن نجحت في انتزاع الغالبية البرلمانية في الجمعية الوطنية، ومن ثم تحريك الشارع بشكل منظّم، وإظهار القدرة على استنزاف الدولة الفنزويلية، من خلال أعمال العنف.
وهذا ما يفسّر أيضاً حملة التشكيك الواسعة بانتخابات الأحد الماضي، والتي لم تقتصر على المعارضة اليمينية الداخلية، وإنما امتدت إلى جهات خارجية، على رأسها الولايات المتحدة، التي تقود اليوم جهود تقويض شرعية مادورو، على المستوى الدولي، إلى جانب تضييق الخناق على النظام اليساري، من خلال العقوبات الاقتصادية التي تستهدف إضعاف القدرة الاقتصادية للدولة الفنزويلية، بما يصب مزيداً من الزيت على نيران الأزمة السياسية المشتعلة أصلاً.
ومن غير الواضح، حتى الآن، مستوى العقوبات الأميركية المزمع فرضها على فنزويلا، ولكن من الواضح أنها تنطوي على محاذير، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تجعلها سلاحاً غير ناجع، بحسب ما يؤكد خبراء الاقتصاد، الذين يعتقد بعضهم أنّ الحكومة الفنزويلية قد تكون قادرة على احتوائها، عبر إيجاد أسواق بديلة في آسيا، حتى وإن تكبّدت نفقات شحن إضافية تتراوح بين دولارين وثلاثة دولارات ــ مع العلم بأن ارتفاع الأسعار العالمية نتيجة الأزمة القائمة قد يعوّض تلك الخسارة ــ أو حتى الرهان على أن حاجة الاقتصاد الأميركي إلى النفط الفنزويلي لن يجعل من أمد الحظر طويلاً.
على هذا النحو، يمكن توقع معركة طويلة داخل فنزويلا، يبدو أن آفاق التسوية السياسية فيها بعيدة، ما يفاقم مخاطر الجنوح نحو حرب أهلية، وخصوصاً في ظل الجهود الحثيثة التي تبذلها المعارضة الداخلية والولايات المتحدة لتعميم خلفية أيديولوجية جديدة للصراع الحالي، تستبدل البعد الطبقي القائم على ثنائية اليمين واليسار، ببعد أكثر خطورة، عنوانه التفوّق الاجتماعي لـ«الرجل الأبيض» على «التشافيستا»، الذين باتوا يصوّرون كـ«رعاع» من «السود» و«السكان الأصليين»، ممن يستحقون «الحرق»، تماماً كما حصل مع المواطن أورلاندو فيغويرا، الذي أضرمَ جموعُ المعارضين النارَ في جسده، في أحد أحياء كاراكاس في أيار الماضي.
"الاخبار اللبنانية"