2024-11-30 09:25 ص

جنون أميركي لإنقاذ الإمبراطورية

2017-10-14
د. وفـيـق إبـراهـيـم

السياسة الأميركية مُصابة بسُعار سببه إيران وكابوس اسمه حزب الله، وذعر على إمبراطوريّتها من القطار السوفياتي العائد بلبوس روسي. فهؤلاء حطّموا خطّتها الجديدة بتفتيت «الشرق الأوسط»، مدمّرين أحلامها بالاستثمار في إرهاب إسلاموي كاد أن ينجح بتفجير العالم تدريجياً.

واشنطن التي بنت إمبراطوريّتها الكونيّة بأربع خطوات تاريخية متلاحقة: بناء صناعي ضخم يريد موادّ أولية وتصريف سلع، استعمال الآلة العسكرية للسيطرة، وتأسيس انتشار سياسي جيوبوليتيك ، وأخيراً هيمنة اقتصادية في كلّ مكان.

وتعزّز هذا السياق بانهيار الاتحاد السوفياتي، فاستفرد الأميركيون بالهيمنة العالمية مسيطرين على شبكة تحالفات أوروبيّة و»شرق أوسطية» إلى جانب اليابان وروسيا «يلتسين» وحلف الناتو، وكلّ المنظمّات الإقليمية والدولية.

لكنّ إيران بمفردها شكّلت استثناءً على قاعدة الاستسلام، قاومت حصاراً ومقاطعة دائمَين منذ ثمانينيات القرن الماضي، وجابهت حروباً وغارات وأسّست تحالفات منتشرة، بينها حزب الله الذي أفرز أول ظاهرة عربية تاريخية تهزم «إسرائيل» وتفرض عليها الانسحاب من لبنان، وعاودت تلقينها درساً في الانضباط والتوقّف عن التمدّد والاجتياحات في 2006.

أدّى هذا التحالف الإيراني السوري الروسي مع حزب الله إلى تلقين الإرهاب درساً بليغاً في سورية، منتقلاً إلى العراق الذي يواصل خنق الإرهاب على أراضيه حتى الموت. والنتيجة أنّ الأوراق الأميركية في العالم العربي تتآكل، فتركيا المشرفة على أمن الإرهاب طيلة السنوات الست المنصرمة، تتبادل الاتهامات مع الأميركيين وتنسّق مع الروس والإيرانيين، وتشتبك مع السعوديين من أجل قطر والإخوان المسلمين. وقطر الداعم الكبير للإرهاب، تتلقّى الآن دعماً اقتصادياً إيرانياً لمجابهة الحصار السعودي، والسعودية ومصر والإمارات والبحرين في جبهة المعادين لخطّ قطر تركيا، محاولين تأسيس استسلام فلسطيني يؤدّي تلقائياً إلى جبهة خليجية مصريّة فلسطينية «إسرائيلية. إلا أنّ الحسابات الأميركية لم تكن دقيقة، إيران انتصرت على أساليب خنقها، وروسيا أرسلت قطارها الجوّي الحربي إلى سورية، وحزب الله مع المنظّمات المحاكية له استبسلوا في توقيع أعرض انتصار بدماء الشهداء…

ولتوضيح الأزمة الأميركية بموضوعية، فإنّ واشنطن تراهن على ورقة الكرد في سورية والعراق للاستثمار فيهما، إلى جانب قواعد عسكرية متناثرة لها بين البلدين، فيما يستقرّ نحو 75 في المئة من الأراضي السوريّة في سيادة الدولة، ونسبة مماثلة في العراق توالي دولتها حالياً، مقابل نحو عشرين في المئة من سورية كانت سابقاً مع النظام والباقي في فوضى الإرهاب والرعاية الأميركية التركية، مع المعدّلات نفسها إلى حدود كبيرة في العراق.

فيتبيّن أنّ الإرهاب أصبح معزولاً في بؤر ضيّقة من البلدين، وإلى جانبه الدور الأميركي المعزول والمصاب بالاكتئاب. وهنا بدأ السُّعار الأميركي يتصاعد، وخصوصاً لملاحظته تهافتاً أوروبياً على إيران، تجسّد بعقود اقتصادية وقّعتها فرنسا وألمانيا بمليارات الدولارات، وتعزيزاً اقتصادياً روسياً وصينياً فيها، متواكباً مع محاولات يابانية لاختراق أسواق طهران، ما دفع ببريطانيا إلى الاعتراف بأنّ إيران تنفّذ الاتفاق النووي، ولإرضاء البيت الأبيض أضافت بأنّ الإيرانيّين ينتجون صواريخ تسبّب تدهوراً للعلاقات في المنطقة.

وهنا، وجدت واشنطن نفسها مهدّدة على مستوى إمبراطوريّتها الاقتصادية للمرّة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، لأنّها تخسر حرباً هذه المرّة في منطقة كانت أساس هيمنتها منذ 1945، بسبب اكتنازها على أعلى معدّل احتياطات تغطية في العالم، ولأنّها دول لا تنتج شيئاً ولديها ما تدفعه ثمناً لسلع استهلاكية أميركية الصنع. ويصادف أنّ هذه المنطقة «الشرق أوسطية» لا تزال على حالتها الأولى من التخلّف الصناعي والعلمي المتقاطع مع وجود كميات ضخمة من الطاقة الجديدة، أيّ الغاز الموجود بغزارة في قطر والجزائر والساحل السوري اللبناني، ومناطق حمص وتدمر، من دون نسيان مصر والمناطق العربية الواعدة في العراق والسعودية وسواحل غزة في فلسطين المحتلة.

وإذا كانت هزيمة الإرهاب أزعجت السياسة الأميركية، فإنّ تأكيد فرنسا وألمانيا وبريطانيا على أنّ إيران تلتزم بشروط الاتفاق النووي، رافضين مزاعم الرئيس ترامب بخرق طهران، تسبّب لها بذعر موازٍ. فهذا خروج على مبادئ الطاعة الأوروبية التاريخية اتجاهها، كما أنّ تضخّم الدور الروسي بدءاً من سورية نحو التحالفات الإيرانية في آسيا الوسطى والعراق وسورية ولبنان، مع مواصلة إظهار حسن نيات موسكو تجاه مصر والجزائر، وصولاً إلى السعودية نفسها وأميركا الجنوبية وبحر الصين، يثير ذعر الأميركيين هذه المرّة، لأنّه يتّخذ شكل انتفاضة عالمية معادية للاستحواذ الأميركي على اقتصاد العالم، ولا يتركون منه إلا الفتات تلتقطه أوروبا واليابان، لكنّ الصين بمفردها تستولي بشعبية سلعها ورخص الأسعار على حصة وازنة من هذه السوق، وقد تتجاوز الاقتصاد الأميركي في وقت قريب، الأمر الذي يجعل واشنطن تكيد لها وتسعى لتدميرها من الداخل.

يمكن إذن الجمع بين الخسائر العسكرية للأوراق الأميركية في الشرق الأوسط، والتمرّد الأوروبي الآسيوي على الممنوعات الأميركية، وهي عناصر أصابت القوى الاقتصادية الأميركية الكبرى بذعر حقيقي على استمرار تسلّطها على العالم، الناتج أصلاً من هيمنة عسكرية أصبحت سياسية، وتربّعت على الاستهلاك الذي حدّدت له ذوقه في الملبس على طريقة «الجينز لباس المنتصر»، والمأكل في صناعة «الأكل السريع» «الفاست فود»، والمأوى حيث البناء العمودي الأميركي هو الحلّ للكثافة السكّانية، حتى أصبح الإنتاج الأميركي النموذج الوحيد للتقدّم الإنساني، حسب ما تروّج له الإعلانات والدعايات الإعلامية، متحوّلاً ثقافة سائدة…

ماذا تفعل واشنطن لهذا التدهور المتصاعد؟
عادت إلى نبش كامل أوراقها: شيطنة إيران بالقوة، والإعلام العالمي سند كبير في هذا المجال، وتحويل حزب الله هدفاً عالمياً لـ «إرهابه»، واتّهامه بقتل جنود أميركيين في لبنان في 1983.

سياسياً، هناك ضغط أميركي كبير على أوروبا، تمارسه أيضاً السعودية والإمارات لإعادتها إلى مدرسة التأديب الأميركية وإصلاح شأنها، بمواكبة عملية فبركة اتهامات للنظام السوري باستعمال الكيماوي وقتل المدنيين، مع التركيز على تصعيد الاتهامات في المحكمة الدولية الخاصة برفيق الحريري نحو حزب الله، بغرض تزويد الفتنة السنّية الشيعية بجرعات تنشيطية.

وتعمل المخابرات الأميركية والسعودية على استخدام الأكراد الإيرانيين وسنّتها وعرب الأحواز، وتجنيد أفواج منهم لتدبير عمليات تفجيرية وانتحارية لزعزعة الوضع الأمني.

أمّا لبنان، فتحاول واشنطن مباشرةً، وعن طريق النفوذ السعودي، إعادة تجميع المتضرّرين سياسياً من حزب الله في إطار حركة سياسية وإعلامية، لاتّهامه بخرق السيادة وقتل السنّة العرب. فلن تترك واشنطن وسيلة لتستعملها في سبيل وقف تصدّع إمبراطوريّتها العسكرية، وهذا لا يعني أنّ الطرف الروسي السوري ـ الإيراني ـ العراقي مع حزب الله وحلفائه لن يجد وسيلة للمجابهة، وهو الذي انتصر في الحرب الأخيرة، ويعرف مدى الرّياء الأميركي الذي ينسى أنّ الجيش الأميركي الذي غزا لبنان في 1983، لم يكن مغطى بقرار دولي، لذلك يمكن أن يعامله الشعب اللبناني معاملة المحتلّ وتجب مقاومته، كما أنّ الأميركيين هم الذين يحاربون إيران داخل حدودها، وليس العكس، وعلى مقربة من بحرها ومداها.

ولماذا تسمح واشنطن لنفسها بتطويق روسيا وتمنع عنها الحركة إلى الخارج للدفاع عن نفسها؟

ومتى تسمح لأوروبا التي أصبحت «راشدة» بحريّة الحركة؟ ولماذا لا تقبل بمنافسة طبيعية مع الصين واليابان في الإطار الحصري للاقتصاد؟

إنّه سُعار الإمبراطورية الاقتصادية الأميركية التي يجسّدها الرئيس ترامب، وتحاول وقف التطوّر العالمي عند حدود 1990، تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي. لكنّها لن تصل إلى حدود الحرب العالمية الثالثة مهما استعملت من وسائل قامعة، لأنّ هذه الإمبراطورية تعرف أنّ استعمال النووي يعيد العالم إلى مرحلة ما قبل التدوين والتأريخ.

إنّ موازنات القوى الجديدة تؤكّد أنّ عصر الهيمنة المطلق انتهى إلى غير رجعة، لمصلحة نظام مرجعي متعدد يخفف الاحتكارات ويعيد الاعتبار لقانون دولي طحنته حوافر الأميركيين، وهي تجتاح العالم بحثاً عن مزيد من الدولارات والذهب.