2024-11-30 03:52 ص

ماكرون وسياسته فى الشرق الأوسط

2017-12-02
د. نيفين مسعد
تتميز السياسة الخارجية الفرنسية لإيمانويل ماكرون في العموم بأنها سياسة نشيطة ومبادرة، وكمثال فإنه بينما أكتب هذا المقال فإن ماكرون يقوم بجولة في إفريقيا محاولا وضع أسس جديدة للعلاقة معها، ومنطلقه في ذلك أن هناك مجموعة من التحديات المشتركة (كالإرهاب والهجرة غير المنتظمة والاتجار بالبشر والمخدرات) تواجه الطرفين وتفرض توثيق التعاون بينهما. لكن لما كان التاريخ الاستعماري الفرنسي لبلدان القارة يمثل عائقا نفسيا أمام تطوير أسس الشراكة الفرنسية- الإفريقية فإن ماكرون لم يتورع عن الاعتذار عن هذا التاريخ البغيض، ولنا أن نتخيل تأثير هذا المدخل علي الشعوب الإفريقية ومنها الشعب الجزائري الذي طالما دعا فرنسا للاعتذار عن جرائم 132 عاما من الاستعمار الاستيطاني لكن فرنسا أبت، ثم ظهر ماكرون وأقر بممارسة بلاده التعذيب في الجزائر في حديثه لمجلة «لوبوان» الفرنسية في أكتوبر 2016 أي قبل توليه الرئاسة، بل هو وصف استعمار الجزائر بأنه «جريمة ضد الإنسانية» توجب الاعتذار أثناء حديثه لقناة جزائرية في يوليو 2017 أي بعد دخوله قصر الإليزيه.

بطبيعة الحال يستند هذا المدخل الاعتذاري الفرنسي إلى أسس مصلحية، فما كان يمكن لماكرون أن يدافع بقوة عن تشكيل القوة الإفريقية المشتركة لحفظ الأمن في الساحل الأفريقي إلا وهو يستند إلي علاقات قوية مع دول المنطقة. في هذه الحالة تتسق المبادئ الأخلاقية لفرنسا(أي الحرية والإخاء والمساواة) مع مصالحها السياسية والاقتصادية، وهو الوضع المثالي الذي تشعر فيه أي دولة بالارتياح لأنها لا تضطر للاختيار بين المصلحة والمبدأ، لكن هذه الحالة لا تتوافر دائما، فالأرجح أن تضطر الدولة للاختيار بين الاثنين وعندما تواجه هذا الاختيار فإنها تحتكم لمصالحها. وعندما وصل ماكرون إلي السلطة كان الشرق الأوسط في المراحل الأخيرة من عملية التغيير التي طالت دوله من أكثر من ست سنوات، وفي مثل هذا التوقيت الحرج تحاول كل الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة إعادة التموضع بما يخدم مصالحها في ظل الخريطة السياسية ــ وربما أيضا الجغرافية الجديدة للمنطقة ــ وفرنسا غير مستثناة من ذلك.

ليس من قبيل المصادفة أنه بعد أكثر قليلا من شهرين علي توليه السلطة بادر ماكرون بطرح مبادرة لتسوية القضية الليبية واستضاف كلا من فائز السرّاج وخليفة حفتر بهدف الاتفاق علي مجموعة من المبادئ جوهرها الالتزام بالتسوية السياسية للصراع. وماكرون إذ فعل ذلك كان يأمل في أن يساعد علي حلحلة جمود الوضع في ليبيا لكنه لم يكن واثقا من النتيجة- ببساطة ــ لأن كلا من السرّاج وحفتر لا يتحكمان في كل عناصر المشهد الليبي، فإخوان ليبيا ممثلون في «حزب العدالة والبناء» انتقدوا المبادرة الفرنسية بعنف وعدّوها تعديا علي دور الأمم المتحدة . كذلك فإن إيطاليا صاحبة النفوذ العسكري والسياسي في ليبيا لم تكن سعيدة بالتدخل الفرنسي وأبدت قلقا صريحا بهذا الشأن. ثم إن ما اعتبره ماكرون خطأ من فرنسا بتدخلها العسكري في ليبيا عام 2011 تراه أطراف ليبية تآمرا صائبا لأنه لولاه ما أطيح بنظام القذافي . ماكرون إذن لم يكن واثقا من النتيجة لكنه لم يتخلف عن المحاولة أمام إغراءات النفط وضغوط الإرهاب والهجرة.

من ليبيا إلي الخليج العربي إلي سوريا إلي لبنان وأخيرا إلي إيران يتحرك ماكرون بسياسة متعددة الأبعاد، البعد الأول فيها هو التمدد بثقة إلي مناطق ليست من المعاقل التقليدية للنفوذ الفرنسي، ومن هنا كان دخول فرنسا بقوة علي خط الأزمة القطرية ، وفي الوقت نفسه تعزيز النفوذ الفرنسي في معاقله التقليدية كما في التوسط لإعادة سعد الحريري للبنان ثم متابعة مساعي التهدئة مع الرئاسات اللبنانية الثلاث. البعد الثاني يتعلق بتحقيق التوازن بين المصالح الفرنسية المختلفة، وهكذا دافعت فرنسا بحزم عن الاتفاق النووي الإيراني ضد التهديدات الأمريكية، وساندتها في ذلك دول الاتحاد الأوروبي ،لكنها علي الجانب الآخر انضمت للولايات المتحدة في إثارة قضية البرنامج الصاروخي الإيراني ودعت للتفاوض من حوله.أما البعد الثالث فهو الحفاظ علي الدولة الوطنية أو ما تبقي منها في بؤر الصراع العربية، وعندما قال ماكرون إنه لا يجد بديلا لبشار الأسد فإنه كان مدفوعا بهذا الاعتبار رغم كل ما جلبه عليه قوله من نقد المثقفين في الداخل الفرنسي. مرة أخري هذه الدبلوماسية الفرنسية النشيطة تواجه مشكلات كثيرة وقد تستحق مشكلة البرنامج الصاروخي الإيراني تحديدا تفصيلا ليس هذا مقامه, لكنها دبلوماسية تضخ دماء جديدة في السياسة الخارجية الفرنسية.

إن فرنسا دولة مهمة لمصر وهناك العديد من القضايا التي يمكن للدولتين أن ينسقا معا بخصوصها لعل من أبرزها القضية الليبية والقضية اللبنانية، وإذا كانت فرنسا عائدة للمنطقة بقوة فإن عودتها قادرة علي إعادة تشكيل التوازنات والاتجاهات أيضا.
(الاهرام المصرية)