2024-11-27 07:41 م

السودان: مسيرة تطبيع من السر إلى العلن!

2020-06-12
أعادت وفاة المستشارة السودانية نجوى قدح الدم في أيار/ مايو الماضي الجدل حول التطبيع مع إسرائيل، إذ لم يكن معلوماً للرأي العام أن قدح الدم، التي عملت مستشارة للرئيس الأوغندي يوري موسفيني، تعمل الآن مستشارة لرئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، وانتشر ذلك بعد إذاعة خبر وفاتها رسمياً. عُينت نجوى قدح الدم سفيرة بالخارجية السودانية في الشهور الأخيرة لحكم الرئيس المخلوع عمر البشير، فيما يبدو كمحاولة لتوظيف علاقاتها المميزة مع موسفيني، حيث لعبت في وقت مضى دوراً رئيسياً في تحييد موسفيني تجاه الحركات المسلحة المعارضة للبشير، والتي كانت تتخذ من أوغندا مركزاً لنشاطها. وقبل إعلان وفاتها بساعات، حطت بمطار الخرطوم طائرة إسرائيلية خاصة في محاولة لإجلاء طبي لها غير أن "كورونا" كان أسرع، وفقاً لما أعلنته وسائل إعلام إسرائيلية، على الرغم من نفي السلطات الرسمية في الخرطوم خبر وصول الطائرة الإسرائيلية.

وتعتبر قدح الدم مهندسة لقاء البرهان – نتنياهو بتنسيق مع الرئيس الأوغندي يوري موسفيني في مدينة عنتبي الأوغندية في شباط/ فبراير الماضي. لكن ردود فعل وسائل الإعلام الإسرائيلية على وفاتها كشفت عن دور أكبر لها فيما يتعلق بقضية التطبيع، وأن لقاء عنتبي، الذي أثار ضجيجاً، فلم يكن إلا حلقة من سلسلة بدأت باكراً، وإن سراً، إلا أنها لم تعد الآن بحاجة إلى الإعلان الرسمي.

التطبيع...جدل قديم متجدد

برزت قضية التطبيع في المشهد السوداني باكراً. "أنا أنتمي لمدرسة داخل المؤتمر الوطني - الحزب الحاكم- تدعو للتطبيع مع إسرائيل"، هذا التصريح الشهير لأحد حكام ولايات السودان الشرقية في العام 2012 رمى حجراً في بركة مياه ساكنة، إذ فتح استفهاماً كبيراً حول تحوّل مواقف التنظيم الإسلامي الحاكم، المعروف بعدائه للكيان الإسرائيلي، والداعم علناً لحركات المقاومة الفلسطينية من منطلقات إسلامية بحتة. فتح هذا التصريح باباً واسعاً للنقاش، واستمر الجدل في الفضاء العام دون إبداء أي موقف رسمي من قبل مؤسسات الدولة السودانية. ويبدو أن مجرد إثارة الجدل وفتح القضية للنقاش كان مطلوباً لكسر الحاجز وتسجيل خطوة في هذا الاتجاه.

بعد احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013 أعلن الرئيس السوداني عمر البشير في مطلع 2014 عن حوار وطني جامع. وفي محور العلاقات الدولية، كانت قضية التطبيع حاضرة في أوراق الحوار، وبرزت تباعاً في وسائل الإعلام السودانية، وبدأت تدريجياً التصريحات شبه الرسمية في طرح التساؤل الأبرز: "لماذا لا للتطبيع؟"، ثم توالت التصريحات الرسمية تلميحاً لإمكانية التطبيع.

مطلع 2016 يؤرخ لأول تصريح رسمي من وزير الخارجية السوداني- وقتها - إبراهيم غندور الذي قال بوضوح إن الحكومة لا تمانع من طرح قضية التطبيع للنقاش. بالمقابل كان يشير إلى فئة قليلة تريد للسودان أن يبقى محاصراً دولياً. الخرطوم التي احتضنت القمة العربية في 1967 بعد "النكسة"، والتي عُرفت بقمة "اللاءات الثلاث"، وجدت نفسها بعد سنوات من الحصار الأمريكي أمام نصائح بالتطبيع.
مطلع 2019 أعلن الرئيس عمر البشير رسمياً أنه تلقى نصائح بالتطبيع مع إسرائيل حتى تتحسن أوضاع البلاد. وعلى الرغم من أن البشير في حديثه هذا شدد على قضية الفلسطينيين، إلا أن الواقع غير ذلك، إذ فيما يبدو لعبت إسرائيل دوراً في رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، حيث نقلت صحيفة إسرائيلية قبل إعلان البيت الأبيض رفع العقوبات في 2017 أن تل أبيب حثت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي على تحسين علاقاتهما مع السودان. وتشير بعض المعلومات أن مسؤولاً رفيعاً في القصر الرئاسي السوداني زار إسرائيل سراً في وقت سابق.

صحيح أن البشير في حديثه عن نصائح تلقاها للتطبيع مع إسرائيل لم يشير إلى الناصحين، لكن رفع العقوبات الأمريكية عن السودان كان عبر بوابة الخليج. وبعد إعلان القرار الأمريكي، أعلنت وكالة الأنباء السودانية الرسمية "سونا" أن البشير أجرى اتصالاً هاتفياً مع ولي العهد محمد بن سلمان، شكره على دور المملكة العربية السعودية في رفع العقوبات. وفي حوار تلفزيوني أكد البشير أيضاً على الدور السعودي.

الخروج إلى العلن بعد ثورة ديسمبر

على الرغم من ذلك، ظلت قضية التطبيع محل جدل، لكن وعلى أقل تقدير، أصبح الحديث عن التطبيع قابلاً للنقاش، بعدما كان محرماً سياسياً وأخلاقياً. وبعد "ثورة ديسمبر" 2019، كانت أصوات الشارع تنادي بخارطة واضحة في مسألة العلاقات الخارجية، والنأي قدر الإمكان عن المحاور التي اتبعها الرئيس المخلوع. لكن طبيعة التغيير، التي نتجت عنها شراكة بين قوى الثورة وقادة النظام السابق في المؤسسة العسكرية، فرضت إكمال ما بدأه نظام البشير حتى ولو إلى حين، وعلى نحو خاص فيما يتصل بالعلاقات الخارجية، والتي انخرطت خلال السنوات الأخيرة في محاور الخليج. بعد لقاء البرهان – نتنياهو في عنتبي الأوغندية، وعلى غير ما هو متوقع، احتفى كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي بهذا اللقاء، بل يُمكن القول أن لقاء عنتبي وجد ترحيباً معلناً، على الرغم من بضع تظاهرات رافضة دعت إليها بعض الأحزاب الإسلامية. وعطفاً على ذلك فإن الأحزاب العروبية والحزب الشيوعي السوداني أعلنت رسمياً أنها ضد التطبيع، وهذه مواقف تاريخية لبعض الأحزاب ذات الخلفيات اليسارية. غير أن الحركات المسلحة المنحدرة من إثنيات أفريقية ترى أن الموقف من التطبيع ينطلق من منطلقات عربية محضة.

لكن لقاء عنتبي، والذي أُعلن في الخرطوم أنه تمّ دون علم رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، يبدو واضحاً كمحاولة جادة من بعض دول الإقليم لإعطاء رئيس مجلس السيادة دوراً رئيسياً في السياسة السودانية في مرحلة ما بعد الثورة، إذ يحتاج البرهان بعد مجزرة فض اعتصام القيادة لزخم شعبي، وسند إقليمي حتى يتسنى له الحصول على وضع ينافس شعبية حمدوك الجارفة من جهة، والقوة العسكرية الضاربة لنائبه، قائد ميليشيا الدعم السريع، محمد حمدان، من جهة أخرى. ولطالما صُور للشارع السوداني أن التطبيع مع إسرائيل مرتبط برفع الحصار الأمريكي، وبالتالي يقود ذلك إلى انتعاش اقتصادي، فإن من يحقق ذلك من حكام الفترة الانتقالية سيحصد رصيداً منقطع النظير. وقبيل لقاء عنتبي بـ 24 ساعة أعلن مكتب البرهان تلقيه دعوة من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لزيارة واشنطن. لكن جائحة كورونا عطلت الزيارة التي لا تزال مرتقبة.

وبعد أيام قليلة من لقاء عنتبي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عبور الطائرات الإسرائيلية المجال الجوي السوداني باعتباره نتيجة للتفاهمات التي تمت في عنتبي بين الجانبين.

في هذا التوقيت، ما يحتاجه السودان من التطبيع ربما لا يتعدى الدفع باتجاه إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية، والتي بدأت فيها التحركات الدبلوماسية بشكل حثيث منذ عهد المخلوع البشير. وهي أي – قائمة الإرهاب - المرحلة الثانية من الحوار السوداني الأمريكي، إذ توجت المرحلة الأولى برفع العقوبات الاقتصادية، لكن ظلت لائحة الإرهاب حجر عثرة أمام السودان. أما نتنياهو فهو بحاجة إلى الحفاظ على الحد المعقول من شعبيته في ظل تهم الفساد التي يواجهها. واستراتيجياً، فالأمر برمته جزء لا يتجزأ من صفقة القرن.

مخاوف من صناعة بطل عسكري

صحيح، قد نلمس بوضوح أن الشارع غير المسيس غير آبه بقضية التطبيع، ولن يقاوم إذا انتهى الأمر بعلاقات معلنة. الشارع الآن بحاجة إلى منقذ اقتصادي أولاً، ومنقذ لما قد تصبح عليه مآلات الثورة في مقبل الأيام في ظل شراكة مختلة. المدنيون بدرجة كبيرة يملكون الشارع بالكامل، لكن بلا سلطة، والعسكريون الذين يملكون السلطة والسيطرة على الاقتصاد ومؤسسات النظام القديم لا يملكون أدنى شعبية في الشارع، بل هم يواجهون بالرفض على الدوام. لكن مخاوف الشارع تتصاعد إزاء تمدد سلطات العسكريين، وإمساكهم بزمام المهام التي ليست من اختصاصهم. على سبيل المثال، ملف العلاقات الخارجية من صميم مهام مجلس الوزراء، لكن الواقع أن مجلس السيادة الانتقالي هو الذي يحدد خارطة العلاقات الخارجية، وما حدث في عنتبي كان كافياً، ولم يجد مقاومة أو حتى اعتراضاً من جانب رئيس الوزراء.

وربما يتعين علينا انتظار زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، لواشنطن والمرتبطة وثيقاً بمخرجات لقاء نتنياهو في عنتبي. وإذا ما أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون الداعمون لوأد الديمقراطيات الناشئة أن تمنح البرهان دوراً استثنائياً بشطب السودان من قائمة الإرهاب، فهي تكون قد خلقت منه بطلاً شعبياً وهذا ربما يمهد له الطريق إلى الحكم مثلما حدث مع عبد الفتاح السيسي في مصر بعد إزاحة الإخوان المسلمين.
الخلاصة أن قضية التطبيع التي برزت بقوة في المشهد السوداني بعد لقاء عنتبي كشفت عن تنافس حكام السودان على السيطرة في ظل انقسام إقليمي ودولي على دعم من هم في سدة الحكم في السودان. وتشير بعض المعلومات إلى تراجع ثقة الغربيين في رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، بفعل عدم قدرته على المواجهة واتخاذ القرارات الصارمة والدفاع عن صلاحياته التي نصت عليها الوثيقة، وبذا يصبح شبح صناعة الأبطال العسكريين بات أقرب.

"السفير العربي"