خلال أعمال قمة مجموعة العشرين بالعاصمة الهندية نيودلهي في 10 سبتمبر/أيلول 2023، أعلن كل من الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد، إلى جانب العديد من القادة الأوروبيين، إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو مكوّن من مسارين: الأول يربط الهند بالخليج، والثاني يربط الخليج بأوروبا، وتكون “إسرائيل” حلقة الوصل بين المسارين.
شراكة اعتبرها جميع المشاركين تاريخية رغم أن دوافعهم مختلفة، ثم بعد التوقيع على المشروع الذي حظي بمباركة الولايات المتحدة، خرج الجميع بتوقعات مثالية وآمال كبيرة ومسابقة للأحداث، وبدا بايدن وكأنه الأكثر فرحًا بهذا المشروع الذي وصفه بـ”صفقة حقيقية كبيرة ستغير من قواعد اللعبة”. كذلك وصفت “أورسولا فون دير لاين” المشروع بأنه “الأكثر طموحًا لجيلنا وجسرًا يجمع بين القارات والحضارات”.
على صعيد آخر، لم يخفِ “بنيامين نتنياهو” سعادته واعتبر أن مشروع الممر الجديد بمثابة إنجاز تاريخي لـ”إسرائيل” وسيحولها إلى ملتقى مركزي للاقتصاد العالمي، خاصة وأنه يريد الحفاظ على الوضع الراهن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتقليص أي مكاسب قد يحصل عليها الفلسطينيون، لذا رأى أن الممر الجديد سيحقق له أهدافه.
لكن نتنياهو لم يكن الوحيد الذي ضخّم المشروع، ففي دول الخليج العربي، احتفل النظامان السعودي والإماراتي بالممر واعتقدوا أنه سيعظم من نفوذهما الجيوسياسي، ووصفه “خالد الفالح” وزير الاستثمار السعودي بأنه “يُعادل طريقي الحرير والتوابل”. كما بدأت المفاوضات بشأن التطبيع السعودي الإسرائيلي تكتسب زخمًا على أثر هذه المشروع.
في حين أن رئيس الوزراء الهندي اعتبر الممر الجديد بمثابة علامة تاريخية فارقة، ووسيلة لمواجهة مبادرة الحزام والطريق التي عارضتها الهند مرارًا وتكرًار، وأبدت خشيتها مما أسمته استراتيجية “عقد اللؤلؤ الصيني”، في إشارة إلى الموانئ التي بنتها الصين ضمن مبادرة الحزام والطريق من أجل تضييق الخناق على الهند في الجنوب.
وبينما كان المسؤولون الأمريكان والأوروبيون منهمكين بإعداد وثائق المرحلة النهائية لتنفيذ مشروع “الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا” وفق الجدول الزمني، تمهيدًا لاجتماع الشركاء في نوفمبر 2023 للإعلان عن خطة العمل النهائية، والبدء بالتنفيذ الفعلي على أرض الواقع خلال هذه الأيام، إذ بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر تقلب الطاولة على الجميع وتقوّض كل تلك الآمال.
يبدو أن النشوة كانت سابقة لأوانها، فوسط الإفراط في التوقعات والمبالغات، تسببت غزة في إيقاف مشروع الممر وتأجيل كل الاجتماعات، كما أصبح الرأي العام العربي ملتهبًا بسبب الحرب التي تشنها “إسرائيل” على غزة، واضطرت بعض الدول العربية المشاركة في الممر إلى تأجيل محادثات التطبيع مع “إسرائيل”.
فرغم أن الرياض تريد تطبيع العلاقات مع الاحتلال، ولكنها تشعر بضغط الرأي العام في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي بالنسبة لها من الصعب الجلوس إلى الطاولة مع “إسرائيل” والتخطيط لمشاريع الاندماج الإقليمي وبناء روابط اقتصادية وسياسية في الوقت الذي يرتكب فيه الاحتلال مجازر بغزة.
ولذا شعر بايدن بانتكاسة التقدم الذي أحرزه في مشروع الممر الهندي، واعتبر أن أحد أسباب تحرك حماس ضد الاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر، هو إفشال تطبيع السعودية مع “إسرائيل”، وعرقلة مشروع الممر الهندي الأوروبي، وكذلك ادعى الرئيس الإسرائيلي أن حماس و”حزب الله” وإيران اتفقوا على تنفيذ مؤامرة لضرب الممر الهندي الأوروبي الجديد.
كما ذهب البرلماني الأوروبي السابق وأستاذ قسم مؤسسات الاتحاد الأوروبي بجامعة كريت اليونانية “نوتيس مارياس”، إلى أن هجوم حماس في 7 أكتوبر أعاق خطط إنشاء الممر الهندي، وأصبح المشروع “رهينة” بيد حماس على حد تعبيره.
لكن رغم ذلك، وفي هذه اللحظة الحرجة لا تزال أسس المشروع قيد الإنشاء، من غير المرجح أن يتخلى الموقعون عن الممر بسهولة، خصوصًا وأن الدعم القوي الذي تقدمه الولايات المتحدة لـ”إسرائيل” جزء منه رسالة بالتزامها تجاه الممر.
هذا إضافة إلى أن المصالح والدوافع السياسية للبلدان المشاركة في الممر الهندي الأوروبي متوافقة بشكل كبير مع المشروع، ولم تتغير خلال أحداث الحرب على غزة، ولا تزال الرغبة في مواصلة المشروع قوية خاصة من جانبي الهند وإدارة بايدن، علمًا بأن الحرب على غزة لم تقوض العلاقات الاقتصادية بين الإمارات و”إسرائيل”، وكانت الأولى صريحة جدًا في إدانة حماس لأنها شريكة في الممر الهندي.
وكذلك بالنسبة إلى الهند التي خرجت عن السياسة التقليدية التي تنتهجها في القضية الفلسطينية، فـ نتيجة غضبه من تأثير طوفان الأقصى على مستقبل الممر، قام رئيس الوزراء الهندي بإعلان التضامن وتأييد “إسرائيل” في حربها على غزة بشكل غير مسبوق، مصطفًا خلف واشنطن خلافًا لسياسته الحيادية بشأن حرب أوكرانيا، ولسياسية المسافة الفاصلة التي حافظت عليها الهند تاريخًا.
مصالح متقاربة ودوافع مختلفة: أهمية وهدف الممر
منذ نحو عشر أعوام، كان صناع القرار في أوروبا والولايات المتحدة يشعرون بالقلق إزاء عزم الصين على المضي قدمًا في تمدد مشروعها الحزام والطريق الذي بات جزءً لا يتجزأ من استراتيجية الصين الرئيسية، واستطاعت من خلاله الوصول إلى أميركا اللاتينية وأفريقيا التي ضمت أكبر عدد من مشاريع الحزام والطريق، بجانب السيطرة على بعض الممرات البحرية، وتوريط العديد من البلدان النامية بقروض لا تستطيع سدادها.
تميل الدول الغربية إلى تفسير مبادرة الحزام والطريق على أنها تحدي لمكانة أمريكا والغرب، ومحاولة لبناء نظام عالمي جديد يُحول مركز السياسة من الأطلسي إلى الصين.
والواقع أن الصين مع محاولة عرقلتها من قبل أمريكا، فقد أبدت تماسكًا ومرونة أكثر مما يعتقده الكثيرون، فحجم مبادرتها التي دخلت عامها العاشر ومدى انتشارها يتجاوز الخيال، إذ بنت كميات هائلة من البنية التحتية لا مثيل لها في العصر الحديث، واستطاعت الاستثمار ببناء أكثر من 40 ميناءً بحريًا في 34 دولة، وعقد اتفاقيات مع 148 دولة، تمثل ثلثي سكان العالم و40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، من بينهم 17 دولة في الشرق الأوسط و 52 دولة في أفريقيا.
وعلى مدى عقد، أنفقت الصين ما يزيد عن تريليون دولار على شكل قروض للدول النامية، وبلغ إجمالي حجم تجارتها مع الدول التي تغطيها مبادرة الحزام والطريق ما يقرب من 13 تريليون دولار. وتدعي الصين أنها بهذا المشروع حققت إنجازات ملموسة في بناء البنية التحتية في البلدان النامية، وخلقت 420 ألف فرصة عمل وانتشلت 40 مليون شخص من الفقر.
في إطار هذه الخلفية، حاول مثلث الهند وأوروبا والولايات المتحدة إنشاء بديل لمبادرة الحزام والطريق التي تهيمن عليها الصين، فجاء تدشين الممر الجديد الذي أعلنوا عنه منذ أكثر من شهرين، ومن المؤكد أنه شكل منافسة للصين من جميع النواحي.
يتألف المشروع الجديد من ممرين، الأول: ممر بحري شرقي، ينطلق من الهند ويربط الساحل الغربي للهند بالإمارات، والثاني ممر بري شمالي يتضمن شبكة سكك حديد عابرة للحدود، تبدأ من الإمارات مرورًا بالسعودية وتصل إلى جنوب الأردن حتى “إسرائيل”.
ثم ينطلق مسار الممر من الأراضي المحتلة بميناء حيفا نحو أوروبا عبر ميناء “بيرايوس اليوناني”، ومنه بعد ذلك إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا، حيث ينتهي مسار الممر في الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أيضًا أن يحتوي المشروع مستقبلًا على ممر فرعي نحو أفريقيا بما يتماشى مع أهداف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ويلاحظ أن الممر ضم اليونان إلى المشروع، ولم يهمش ويتجاوز أنقرة فحسب، بل سيمر الممر عبر المياه المتنازع عليها بين تركيا واليونان، الأمر الذي أثار استياء الرئيس التركي أردوغان، وأبدى اعتراضه بشكل رسمي، قائلًا: “لن يكون ذلك الممر دون تركيا، والخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب هو الخط العابر من تركيا”.
والواقع أن تركيا كانت في مقدمة معارضي الممر الجديد، وردت أيضًا بشكل عملي عبر الإسراع بتنفيذ “طريق التنمية” وهو ممر يربط دول الخليج بأوروبا عبر العراق وتركيا.
كذلك تنامت مخاوف طهران بعد الإعلان عن الممر الهندي-الأوروبي، ويبدو أن الحرب على غزة خدمت المصالح الإيرانية عبر تأجيل مشروع الممر الذي رأت فيه طهران طوقًا جديدًا لمحاصرتها اقتصاديًا ولتقليل دورها مع الهند. ولذا ذهب مساعد قائد الجيش الإيراني إلى أن “طوفان الأقصى ألغت الممر الهندي”.
من الواضح أن جميع المشاركين في الممر لديهم دوافع جيوسياسية وحسابات استراتيجية خاصة تدفعهم إلى دعم هذا المشروع، ففي حين تنظر الولايات المتحدة إلى الممر من خلال عدسة الالتفاف حول مبادرة الحزام والطريق والتفوق على الصين، وإبقاء دول الخليج قريبة منها وتسريع تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والسعودية، بجانب تعزيز وربط الهند بشكل أقرب مع الغرب باعتبارها قطبًا مضادًا للصين، تنظر الهند في المقابل من خلال عدسة تجاوز إسلام آباد وطهران، وإعادة إحياء الاتصال بالمنطقة العربية وأوروبا، خصوصًا وأن تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 أدى إلى تمزيق ممرات الهند التاريخية مع غرب آسيا وأوراسيا.
والآن من خلال الممر الجديد، هناك فرصًا استراتيجية كبيرة للهند أبعد من باكستان، مثل تعزيز علاقاتها السياسية والتجارية مع شبه الجزيرة العربية وأوروبا، بجانب أن الممر سيقوي الهند التي لها عدد من القضايا الندية مع الصين، فمن شأنه أن يساعدها في المنافسة الإقليمية لبيجين، الأمر الذي سيرفع من دورها ومكانتها في العالم.
ولا يزال كبار المسؤولين الهنود متفائلين بشأن آفاق الممر، رغم أن وزير الشؤون الخارجية الهندي “سوبرامانيام جيشانكار” اعتبر أن الممر يواجه على المدى الحالي تحدي رئيسي يتمثل في غزة، “المشكلة غير المتوقعة” على حد تعبيره.
بينما تنظر أبوظبي والرياض إلى الممر كوسيلة لتأكيد المكانة والنفوذ، وتعزيز الاستثمار والخدمات اللوجستية، وتنمية وتنويع قاعدة اقتصادهما من النفط نحو مصادر الطاقة المتجددة، بجانب الوصول بسهولة إلى الأسواق الأوروبية والهندية.
أما أوروبا، فتنظر للممر من خلال عدسة ترسيخ نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ، كما يأمل الأوروبيون توفير ممر بديل للممرات الأخرى بين الشرق والغرب، بما في ذلك الجسور البرية والبحرية التي تشكل جزء من مبادرة الحزام والطريق.
والأهم أن الحرب الروسية – الأوكرانية فرضت على أوروبا البحث عن مصدر طاقة بديل لسحب ورقة الضغط هذه من يد الروس، لذا في حالة تنفيذ الممر، فمن شأنه أن يلبي احتياجات الطاقة ويخفف من وطأة المأزق الأوروبي، بجانب تعظيم صادرات واستيراد المنتجات الحيوية بشكل أسرع، وخلق بدائل تجارية أخرى دون الحاجة إلى التجارة مع موسكو.
وبحسب د.كريستيان كوخ مدير البحوث بمركز الخليج، فأحد المحاور الرئيسية لمشروع الممر الهندي، ربط منطقة الخليج المنتجة للطاقة بالجانب الأوروبي، وتوفير إمدادات الطاقة دون انقطاع. وما يلفت الانتباه أن في سياق الإعلان عن الممر الهندي، أعلنت إيطاليا خروجها من المبادرة الصينية، وأبلغت الصين رسميًا بأنها لا تنوي مواصلة المشاركة في مشروع الحزام والطريق.
وفي ظل هذه الخريطة من التفاعلات السياسية والاقتصادية الدولية، تثبت غزة أنها العقبة الرئيسية لأحلام وطموحات هذه القوى، وبإمكانها إلغاء المشروع بأكمله، فلا يبدو أن الحرب على غزة مرتبطة فقط بمصالح ومخاوف الهيمنة الأمريكية، إذ تحولت غزة إلى محطة تتكالب عليها القوى الدولية والإقليمية.
خلاصة الأمر، أن الممر الهندي الأوروبي هو أحد أهم العوامل المؤثرة في اتخاذ هذه القوى موقفًا حاسمًا من استمرار الحرب على غزة أو محاولة تحديد مصيرها. وهذا في الحقيقة يثير تساؤلات حول التحولات المحتملة في المشهد العربي في حالة نجح الممر، وخصوصًا تأثيره على القضية الفلسطينية. على أنه من المؤكد أن نتيجة الحرب في غزة هي من ستحدد استمرارية المشروع وآفاق نجاحه مستقبلًا، والذي إلى اللحظة يبدو بعيد المنال وغير قابل للحياة من الناحية الجيوسياسية.
المصدر: نون بوست