لم يعد الإعتراف والشعور بالإحباط وخيبة الأمل من الفشل الذريع حتى الآن من إستراتيجية غارات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة هو أمراً مقتصراً على السوريين وإنما أصبحنا نسمع أصواتاً من داخل البيت الأميركي تعبر بكل صراحة ووضوح عن مدى وحقيقة ذلك الفشل الذريع الذي ترتكبه الولايات المتحدة من خلال هذه الإستراتيجية في حق الشعب السوري، صحيح إن أميركا قادرة على التخطيط المسبق وقادرة على إستشراف معطيات المستقبل ومتمكنة من تطويع المتغيرات وإحتواء المفاجآت إلا إنها فقدت الكثير من الخيوط وقدمت خسائر فادحة لم تكن في حساباتها، وأميركا اليوم تتخبط و تحاول بكل السبل تطويع الإنفجارات والفوضى التي كانت سبباً فيها لتحقيق مصالحها، لكنها لم تكن قد خططت لها بالمعنى العلمي في العراق وباقي الدول العربية، فأميركا إكتفت بالتفرج على الناتو حين بدا بتدمير ليبيا، ولكنها الآن تعود لتمد يدها في سورية، فالفوضى الخلاّقة وجه من وجوه العبث الأمريكي، وكلنا يتفق إن العبث لا يمتلك مقومات النجاح والإنتصار وإن قدر الأمة بيد أبناءها هذا ما برهنه صمود الشعب والجيش السوري الذي جعل أميركا مكشوفة بلا غطاء أمام العالم .
في هذا الإطارتعود الأزمة السورية الى دائرة التسوية السياسية مجدداً بعد تعثر آخر محاولات التسوية في جنيف )2( فالصراع الدائر في المرحلة الراهنة يمكن النظر إليه على إنه ترجمة للصراع السياسي بين أولوية مكافحة الإرهاب المدعوم من محور حلفاء سورية وأولوية الإنتقال السياسي المدعوم من محور أعداء سورية، وبالتالي فإن مسار هذه الامور فرض أولوية مكافحة الإرهاب وفشل محاولات المزج بين الهدفين والتي تمثلت بفشل خطة صناعة ما يسمى المعارضة المعتدلة لتحل محل المجموعات الإرهابية، ومع هذا التحول الهام عادت مبادرة المبعوث الأممي لسورية ستيفات دي مستورا للظهور على السطح للبحث عن إجراءات عملية على الأرض تكون أساساً للتحول من إدامة الأزمة الى الإنتقال لبداية الحل في سورية، فما زال التدخل البري مستبعداً كلياً في المدى المنظور، ليس فقط في حسابات الإدارة الأميركية بل أيضاً في حسابات حلفائها الأكثر تشدداً في الملف السوري، مثل تركيا، فأقصى ما تعول عليه حكومة أنقرة هو إقناع واشنطن بفرض منطقة عازلة في الشمال السوري، وهو ما ترفضه إدارة أوباما حتى الآن، لكنه قد يصبح إحتمالاً وارداً في المستقبل، على ضوء غموض موقفها من الحلول السياسية المقترحة للأزمة السورية، ومنها خطة المبعوث الدولي إلى سوريا دي مستورا، بصرف النظر عن التصريحات المتكررة لأوباما وأركان إدارته عن أن الحل الوحيد للأزمة سياسي بامتياز عبر وسائل دبلوماسية، وأن الحل العسكري غير ممكن، إلا أن الحسابات ستنقلب رأساً على عقب إذا تورطت الولايات المتحدة وحلفاؤها في عمليات عسكرية برية في العراق، ففي مثل هكذا سيناريو سيوضع بقوة على الطاولة إحتمال إمتداد تلك العمليات إلى داخل الأراضي السورية، وسيقود ذلك إلى خلط للأوراق من جديد.
ثمة على الأقل عاملان أساسيان يفرضان على الأمريكيين تغيير موقفهم من الأزمة السورية، ولو بشكل تدرجي وبطيء، أولهما إقتناعهم بأن خيار التخلّص من النظام السوري بالوسائل العسكرية قد سقط نهائياً ولم يعد واقعياً، وثانيهما إدراكهم المتزايد أن جهود القضاء على الإرهاب الذي أصبح أولوية دولية ضاغطة، لن يُكتب له النجاح إلّا بالتعاون مع سورية المؤهلة عسكرياً لهذه المهمة، لكن تغيير هذا الموقف لا يعني التسليم بالهزيمة السياسية في حرب مصيرية ستتحدّد بنتيجتها الملامح النهائية للنظام العالمي وموقع الولايات المتحدة فيه، ولكنه يعني العودة الى خيار الحل السياسي للأزمة السورية من منطلق جدّي وواقعي، يأخذ في الحسبان حقائق الوضع السياسي والميداني في سورية، والتي تؤكد قوة الموقف السوري، والتطور الدراماتيكي للحدث الإرهابي في المنطقة، وموازين القوى الإقليمية والدولية في صراعاتها، ومن هنا يمكنني القول، إن عدم إعلان الإدارة الأمريكية رسمياً عن تغيير موقفها هو بهدف الإستثمار السياسي في أي مفاوضات مقبلة مع الحكومة السورية، فضلاً عن أن الأعداء ما زالوا يأملوا في عرقلة التغيير، ويصرون مع الحلفاء الإقليميين، على أن يبقى إسقاط النظام السوري أولوية أمريكية حتى قبل أولوية محاربة داعش، ولن يطول الأمر بإدارة أوباما، والتي لا تخفي حاجتها الإستراتيجية، كما تثبت مفاوضاتها النووية مع إيران، إلى إعادة بناء علاقاتها الإقليمية، حتى تحزم أمرها، وتذهب الى الخيار الواقعي الوحيد، خيار الحل السياسي للأزمة السورية، والقبول بالدولة الوطنية السورية شريكاً أساسياً في محاربة الإرهاب، على الرغم من كل ما سيثيره ذلك من جنون وقلق الغرب وحلفاؤه في المنطقة.
ومن هذا المنطلق فقد بات واضحاً بالمعطيات المتوافرة أن المسار المستقبلي للمنطقة مرهون بأجواء التهدئة والتفاوض لا التصادم والتصعيد، وما قاله جون كيري أمام الصحفيين في فيينا يكرس هذا المنطق: "الوقت ليس مناسباً للتراجع الآن"، وتعكس بعض التحولات الأميركية الناتجة عن إخفاق واشنطن بإسقاط الدولة السورية وحربها الفاشلة على تنظيم داعش، وانطلاقاً من ذلك غاب الحديث عن شرعية النظام السوري وحل مكانه تسوية سياسية مشروطة بموافقته، ما يعني أن كل مساعي التأجيل والمماطلة حيال الملف السوري لا يعدو كونه مناورة على الزمن، فقادة الغرب لا يريدون إظهار حجم أخطائهم السياسية أمام الرأي العام، وفي الوقت نفسه يحاولون انتزاع وهج الإنتصار المحسوم في دمشق، وفي هذا الإطار من المتوقع أن تشهد المنطقة في المرحلة المقبلة سلسلة من التطورات ومن اهمها، تبلور الحل السياسي بالتوازي مع توسيع رقعة المصالحات الوطنية، وإطلاق مسيرة الإعمار وإستكمال الجيش العربي السوري لمهامه وفق خريطة اشتباك يحقق فيها تقدماً ميدانياً ملحوظاً ومتصاعدا، بالإضافة الى الإنفتاح الدبلوماسي على دمشق سيأخذ شكلاً علنياً حيث تتهيأ السفارات العربية والغربية لإستئناف نشاطاتها وفي مقدمتها السفارة الأميركية، يترافق مع تزايد الضغوط الدولية على الأنظمة والجهات المتورطة بدعم الإرهابيين وتمويلهم وتسهيل مرورهم، كما ستشهد إعادة تمتين وبناء العلاقات السورية التونسية واتجاهها نحو التنسيق والتعاون، وبالتالي فإن هذه العلاقات وضعت على السكة الصحيحة كونها تخدم الشعبين والبلدين وتساهم في إستقرار المنطقة وتقوية الموقف العربي في وجه التحديات المختلفة، كما أن الحوار السعودي- الإيراني سيُستكمل وسينتج عنه تفاهمات في لبنان والبحرين، لكنه سيجري تحت سقف التسليم الخليجي بنتائج مفاوضات فيينا والمواجهة في الساحة السورية، والمتغيرات اليمنية، والإعتراف بدور حزب اللـه كشريك إقليمي وإستراتيجي يحارب الإرهاب وليس تنظيماً إرهابياً كما تصنفه الرياض، فضلاً عن أن جهود محاربة داعش وغيره من التنظيمات التكفيرية ستأخذ طابعاً جدياً بعد استقالة وزير الدفاع الأميركي "تشاك هيغل" ما يعني أن الدور الروسي سيكون أكثر حيوية ونشاطاً لحاجة واشنطن وحلفائها لشريك ملتزم فاعل ومؤثر، وهذه الحاجة ستعمل روسيا على إستثمارها ً في الملفات العالقة كالأزمة الأوكرانية.
وأخيراً يمكن القول بالرغم ما حدث لسورية فما يزال بإمكان شعبها إنقاذها من خلال إدراكهم بأنه لا أحد يهتم بسورية إذا لم يهتم به أبناؤه وان فخ الفوضى المسلحة والفتنة الطائفية إنما الهدف منه تدمير وإضعاف الجميع وإحراق سورية بمن فيها، وبالتالي لا يجب بأي حال من الأحوال إتاحة الفرصة للخارج لرمي عود الكبريت الذي يشعل الحريق في البلد من خلال إثارة الفتنة بين أبنائه، ومن هذا المنطلق ينبغي لكل من يهمه آمر الوطن عليه أن يدرك بأن سورية للسوريين بجميع فئاتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم، وبإختصار شديد بقي أن نترقب إعلان الإنتصار الكامل للشعب السوري في مراحل لم تعد ببعيدة، وبعد هذه السنوات تستحقّ دمشق تحية احترام وهي تخوض المعركة عن كلّ الأمة العربية والذي ستنعكس آثارها بطبيعة الحال على منطقة الشرق الأوسط وربما على الحالة الدولية.
Khaym1979@yahoo.com