حين ينظر العالم في مرآة مصير غزة لا بد من أن تلوح مصر في الصورة، فالمتابع لما يجري في القطاع وما تقوم به إسرائيل وما تلتزم به غالبية دول العالم من صمت مشوب بتنديد تارة وتجاهل تارة أخرى، وما تدفع باتجاهه قوى عالمية وما تبديه القيادة المصرية من حسم مشوب بحكمة وما يعبر عنه المصريون من مشاعر بعضها يقف على طرفي نقيض، يعي أن حديث التهجير ليس فقط مهيمناً بل أكثر تعقيداً وإثارة للرأي والرأي الآخر المتناقضين المتضاربين المتعارضين، لكنهما يتفقان في نهاية الأمر على رفض التهجير كمبدأ وإن انتهت الحال إليه من دون قصد أو عمد أو نية مبيتة، أو عن طريق إطلاق أسماء مختلفة عليه.
حسن النوايا سيد الموقف
حسن النوايا سيد الموقف شعبياً في مصر حالياً، فعلى رغم الضغوط الاقتصادية ومشكلات الحياة اليومية المتعددة الأوجه، وضع المصريون همومهم على خاصية "الانتظار" وانغمسوا في حديث التهجير.
وعلى رغم تكرار هذا الانغماس غير مرة، منذ قامت حركة "حماس" بعملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وهي العملية التي كانت تعني منذ انطلاقها فتح أبواب جهنم على غزة وأهلها والقضية ومنتسبيها، فإن الانغماس هذه المرة مختلف، وأسباب الاختلاف كثيرة، لكن أبرزها تسارع العمليات الإسرائيلية في ما بقي من قطاع غزة وتصاعد الضغوط على أهلها وتفاقم الصمت أو شبه الصمت العالمي واستحكام الشعور بأن مصر تركت لتواجه الملف بطريقة أو بأخرى.
وجانب من دول العالم غارق في بحث آثار الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة الأميركية الجديدة، وجانب آخر منشغل بأحواله الداخلية ومشكلات شعوبه الحياتية التي لا تترك مجالاً للانغماس العالمي أو التفاعل الإنساني. وبين دول العالم من تجد نفسها في حاجة إلى اتخاذ قرار بين تسليم بصعود يمين متشدد في ربوعها، أو مقاومة لإعادة دفة السياسة ومعها الاقتصاد جهة اليسار قليلاً. وهناك من يعتبر نفسه بعيداً من غزة وأهلها والمنطقة والتهاباتها، فيؤثر السلامة ويختار الابتعاد من الندامة. وعلى ذكر الصراعات، فإن دول المنطقة الغارقة في صراعات، أو تلك التي تحاول أن تخرج منها وتقول إنها تحاول التفرغ لإعادة البناء (على رغم عدم توافر الظروف المؤهلة لذلك، بل توافر الظروف المعاكسة أيضاً)، ليست في حال تسمح لها بالدخول في حديث التهجير فعلاً، وربما توليه قليلاً من القول أو لا توليه.
عناوين الصحافة والإعلام العالمية والإقليمية والعربية في وادٍ، لكنه وادٍ منقسم إلى أنهار تجري في مسار ضرورة التهجير، وأخرى تفيض برفضه، ومحتوى الـ"سوشيال ميديا" في وادٍ آخر عنوانه الفوضى الشاملة والهرج الرهيب. ويظل هناك وادٍ ثالث هو الأصل والمنبع، ونعني وادي الشارع المصري الغارق في حديث التهجير.
والموقف الرسمي المصري من ضغوط ومحاولات وخطوات تهجير أهل غزة في المطلق، أي بصرف النظر عن وجهة المهجرين، هو الرفض التام. والبيانات الرسمية والتصريحات الرئاسية والتأكيدات الوزارية منذ بدء حديث التهجير الذي ولد ولو على استحياء في اليوم التالي لعملية "حماس" في السابع من أكتوبر، لا تخرج عن الرفض. وموقف مصر يُعلن ويُشرح مراراً وتكراراً، ويلخصه بيان الهيئة العامة للاستعلامات الصادر قبل أيام.
رفض التهجير بالمطلق
وجاء في بيان الهيئة إن "مصر تعيد التأكيد على موقفها الثابت بالرفض القاطع والنهائي لأية محاولة لتهجير الأشقاء الفلسطينيين من قطاع غزة، قسراً أو طوعاً، إلى أي مكان خارجه، خصوصاً إلى مصر، لما يمثله هذا من تصفية للقضية الفلسطينية وخطر داهم على الأمن القومي المصري".
ورفض التهجير، كما جاء في البيان، "خصوصاً إلى مصر" يجاهر بما يجول في صدور عدد كبير من الأشخاص منذ تفجر هذا الحديث، لكن لا تعبر عنه الغالبية علناً تحسباً للحساسيات واتقاء لشرور التراشق بالاتهامات.
والتراشق بالاتهامات جزء لا يتجزأ من أية إشارة إلى تهجير أهل غزة، قبولاً أو رفضاً، ترحيباً أو تضييقاً، تعاطفاً أو قساوة. وهوامش حديث المصريين عن غزة وأهلها ومصير التهجير الذي يلوح في الأفق والذي تصر غالبية الأطراف الضالعة في حرب القطاع، مباشرة أو من مكاتبها السياسية أو فروعها الاستخباراتية أو حتى عبر أذرعها الاقتصادية، على إبقاء مصر في القلب منه، آخذة في الاتساع وعدم الاتساق.
الغالبية المطلقة من المصريين تحمل تعاطفاً جماً وتراحماً لا أول له أو آخر مع سكان القطاع في الحرب الضروس، لكن هذا لا يعني أبداً مواقف موحدة أو آراء متطابقة في شأن التهجير وما يرتبط به من قضايا أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
وقطاع من المصريين لا يرى في ما يجري حالياً من خطوات إسرائيل التصعيدية وضرباتها الخارقة لاتفاق الهدنة وتحركات لا تشي إلا بإجبار أهل غزة على الهرب قسراً أو طوعاً وما يصفونه بـ"سكوت عالمي وإقليمي مريب"، إلا دفعاً من أجهل التهجير، "خصوصاً إلى مصر"، مما يرفضونه تماماً، وإن كان ذلك لا يعني أبداً نقصاناً في التعاطف أو شحاً في التضامن.
وقطاع آخر يتابع ما يجري على الأرض في غزة، وربما يعي ما يعنيه ويعكسه من مواقف عربية وإقليمية، لكنه لا يفكر إلا في إنقاذ من يمكن إنقاذهم من أهل غزة "الآن"، على أن يجري التعامل مع مسألة التهجير وتصفية القضية واعتبار ما يجري "النكبة الثانية" في وقت لاحق. وبالنسبة إلى هذا الفريق، لا معنى للتضامن إلا بفتح الأبواب أمام أهل غزة، من دون شرط أو قيد أو تدقيق.
والباب نفسه تحول إلى حلبة صراع نقاشي بين المصريين، فبين مصر تغلق الباب، ومصر تفتح الباب، ومصر تترك الباب موارباً، يدور النقاش والسجال والخلاف والاتفاق.
معضلة الأبواب
جانب من الرؤية الشعبية البسيطة، المعتمدة كلية على توليفة من التضامن التاريخي مع فلسطين وأهلها، والدعم الكامل للواقعين تحت الاعتداء، مضافاً إليها عامل تديين القضية المستجد باعتبار أن ما يتعرض له أهل غزة عدوان على المسلمين والإسلام أكثر من أنه عدوان على مواطنين وأصحاب أرض، يدفع باتجاه "افتحوا الأبواب".
وحديث "فتح الأبواب" حين اقترب مما يبدو أنها مرحلة نهائية في جهود تصفية غزة وكتابة واقع جديد لها من دون "حماس"، وربما من دون أهلها، كشف عن نبرة شعبية أخرى تدعو إلى التدقيق والمراجعة في عملية "الفتح".
والدعوة إلى المراجعة تقوم على مكونين، أولهما لا حرج فيه، والثاني مفعم به، فألِف باء فهم المشهد تعني أن قبول التهجير، بعيداً من مسمياته سواء موقت أو شبه موقت أو دائم أو شبه دائم، في مصر يعني إعلاناً بائناً عن "النكبة الثانية"، وتصفية مؤكدة لجزء أصيل باقٍ من القضية الفلسطينية، وكتابة "النهاية" أمام قطاع غزة كما كان يعرفه العالم حتى السابع من أكتوبر عام 2023. أما الثاني، فخليط من مخاوف شعبية تهمين على المصريين من رافضي ومعارضي فكر الإسلام السياسي، ولا سيما جماعة "الإخوان المسلمين" من منطلق يعرفونه جيداً وهو تأثر نسبة كبيرة من سكان غزة بفكر الجماعة من منطلق هيمنة "حماس" (المنبثقة من جماعة "الإخوان" بصرف النظر عن إعلان الحركة فك الارتباط بالجماعة عام 2017 لأسباب منطقية، يؤكد مراقبون أنها من باب المناورة السياسية) على القطاع ومؤسساته التعليمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها منذ عام 2007، باستثناء الفترة بين عامي 2014 و2016.
قلما تجد مصريين بسطاء يتحدثون عن "أمن مصر القومي"، ولكن هذا ما يحدث حالياً. وعلى رغم عدم وجود تعريف شعبي واضح للمفهوم، فإنه يعني كثيراً من الأشياء بين "الأمن الداخلي" و"أمن الحدود" و"أمن الاقتصاد" و"أمن الأعداء، سواء الأشخاص أو الأفكار المعادية" وغيرها من التعريفات التي توحدها وتجمع بينها كلمة "الأمن".
وحين اندلعت أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 وسادت الفوضى في الشوارع لبضعة أسابيع ولاح شبح العنف أو اندساس عناصر إجرامية أو عدائية بين الصفوف، ترك المصريون مخاوف الاقتصاد والسياسة وتعليم الأبناء وتوفير الغذاء واعتبروا الأمن أولويتهم العظمى والقصوى من دون منازع.
ويحدث النزاع في النقاشات الشعبية حين يجاهر بعضهم بمخاوف تتعلق بأهل غزة ومدى تشبعهم بفكر الجماعة واعتناقهم لمبادئ "الإخوان" التي خرج عليها المصريون في يونيو (حزيران) عام 2015، ومقابلة ذلك برفض كامل للمخاوف من قبل فريقين يفترض أنهما يقفان على طرفي نقيض. الأول هم المتعاطفون والمحبون والمنتمون للجماعة وغيرها من نبتة الإسلام السياسي، والثاني خليط من معتنقي مبادئ القومية العربية بنسختها الستينية ويساريين وثوريين في المطلق، ومعهم مواطنون بسطاء نسوا أو تناسوا أخطار الجماعة وأهوال "الإخوان" على مدى عام حكموا فيه مصر (2012).
راضية وصابرة
وضمن بيان مصر الرسمي في ما يتعلق بالتهجير والقضية وموقف السلطة، جاء أن "القضية (الفلسطينية) هي جوهر الأمن القومي المصري والعربي، وموقف مصر منها لأكثر من ثلاثة أرباع القرن ظل موقفاً مبدئياً راسخاً يعلي من اعتبارات هذا الأمن القومي وحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، مما تحملت مصر من جرائه، راضية وصابرة، أعباء اقتصادية ومالية هائلة لم تدفعها مطلقاً في أية لحظة نحو أي تنازل ولو طفيف في مقتضيات أمنها القومي الخا، وأمن أمتها العربية العام، ولا في حق واحد مشروع للشعب الفلسطيني الشقيق".
في السياق نفسه، يمكن النظر إلى ما قاله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل نحو شهرين عن غزة والتهجير والمصريين، ما كان من شأنه أن يعيد جزءاً غير قليل من التأييد الشعبي له الذي تأثر سلباً بفعل الإجراءات الاقتصادية الصعبة على مدى نحو عقد.
وقال السيسي إنه لو طلب من الشعب المصري الموافقة على التهجير، فإنه (الشعب) سيخرج ليقول له "لا". ووصف تهجير الفلسطينيين بـ"الظلم الذي لا يمكن أن نشارك فيه"، مضيفاً "نحن أمة لها موقف من هذا الأمر (التهجير)، وسواء كنت موجوداً في مكاني أو لا، فإن الأمة لن توافق على ظلم الشعب الفلسطيني".
كلمات الرئيس المصري حازت تأييد الغالبية، لكن التأييد لم ينهِ فصول السجال والنقاش والاختلاف في تعريف الظلم، ودواعي التخلي عن "رفض الأمة" للتهجير أمام اشتداد وطيس الإبادة وحدة الضغط، أو أنه لا مجال للحديث عن دواعٍ لأن التهجير "خصوصاً إلى مصر" باب مغلق بـ"الضبة والمفتاح".
ومناقشات المصريين التي تدور رحاها خلال تجمعاتهم في أماكن العمل والفسحة، وحتى في وسائل المواصلات العامة، تتصف بقدر غير قليل من العقلانية، مع هامش مدهش من قبول الرأي الآخر، لا من باب تغيير القناعات، ولكن من منطلق عدم خسارة الأهل والأصدقاء في مسألة جدلية سيظل بتّها النهائي بأيدي صناع القرار، وكذلك انطلاقاً من وعي بأن حوارات الفضاء العام في الباص أو المترو أو الميكروباص ما هي إلا مناقشات عابرة لن تؤثر في قرارات مجلس الأمن غير المؤثرة أصلاً، أو في نوايا أطراف إقليمية هنا أو قوى عظمى هناك.
أجواء الـ"سوشيال ميديا"
أما الـ"سوشيال ميديا"، فأمر آخر تماماً وأجواء مختلفة ومختلة كلية، إذ إن جزءاً من حراك الـ"سوشيال ميديا" يعكس ما يجول في خاطر المستخدمين فعلياً، لكن جزءاً آخر تختلط فيه الحسابات الوهمية باللجان الإلكترونية بالاختراقات المقصودة من قبل جهات عدة بغرض توجيه الرأي العام، أو تفتيته، أو بث الفتنة، أو نشر أكاذيب، أو نثر شعور عام بالقلق والخوف.
وأجواء الـ"سوشيال ميديا" في مشهد غزة والتهجير دفعت بعضهم إلى هجر الأثير حفاظاً على قواهم العقلية وسلامتهم النفسية. أما الباقون فمنتظمون أو متابعون للمحتوى الذي ينضح بكثير.
صفحات أو حسابات عدة على منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما "ميتا"، مخصصة لأهل غزة في مصر تحت مسميات مختلفة. وتزخر هذه الصفحات بأسئلة منسوبة إلى أشخاص من سكان غزة، سواء في مصر أو في القطاع أو غيرهما من بقاع الأرض، حول مواعيد وتوقعات فتح المعبر، أو سبل التواصل مع سفارة فلسطين لدى مصر، أو طرق إرسال أموال إلى الأهل في غزة، أو خروج مريض، أو اصطحاب مرافق، أو البحث عن مكان إقامة وغيرها.
وخلال الأسابيع الأخيرة، وعلى نحو متصاعد خلال الأيام الأخيرة، زادت تدوينات التعبير عن رغبة في ترك غزة والبحث عن بدائل أو دول مستقبلة، وهي التدوينات التي تؤجج تعليقات بين جبهتي رفض وتأييد من قبل مصريين وغزيين.
ومواقف عدة تنضح بها التعليقات بين مطالبة بالتريث والتمسك بالأرض حيث الخروج الآن سيكون بلا رجعة، ومؤازرة يؤكد صاحبها أنها بحثاً عن مخرج منطقي ومفهوم، ومتهم لصاحب التدوينة بأنه يعمل على بث الفرقة ونشر الفتنة وتصفية غزة من أهلها والتخلي عن المقاومة، وآخر يرد عليه أن المقاومة من خلف الـ"كيبورد" تختلف عن المقاومة من داخل الحرب وعلى خلفية الركام وإيقاع القنص والقتل، وكل تعليق يجلب تعليقات معادية وأخرى مؤيدة، وكل رأي يناصب برأي آخر يعادله في قوة الطرح ويناقضه تماماً في التوجه.
والملاحظ أن هناك إصراراً من قبل بعضهم على توجيه اتهامات أو إطلاق نعوت مثل القسوة أو البلادة أو الامتناع عن نصرة المظلوم وإنقاذ المكلوم على رافضي التهجير "خصوصاً إلى مصر"، ولو موقتاً لحين العثور على حل. في المقابل، فإن معارضي التهجير ورافضيه، ولو كان بصفة موقتة، يوجهون اتهامات ونعوتاً تراوح ما بين الجهل وإلحاق الضرر بالقضية بسبب الرعونة والطيش، ودعم الإسلام السياسي وفكر "الإخوان" ولو كان ذلك على حساب الدولة الوطنية ووحدة الأراضي المصرية، ويتوالى حراك الـ"سوشيال ميديا" من دون هوادة، وأيضاً من دون التيقن أو التحقق من هوية المستخدمين والمدونين والمعلقين.
المصريون و"حماس"
وبعيداً من هوية المستخدمين ونسبة المحتوى الحقيقي المكتوب والمنشور من قبل أشخاص حقيقيين مقارنة بنسبة المحتوى الموجه، يكشف حراك الـ"سوشيال ميديا" عن اختلافات في مواقف المصريين من حركة "حماس".
فلم يعُد الأمر مجرد فريق معارض للإسلام السياسي، كاره لجماعة "الإخوان المسلمين"، رافض لأذرعها ووكلائها، في مقابل فريق محب ومتعاطف ومعتنق للتوجه الديني، وأصبح هناك معارضون للتيار، لكنهم يقولون إنهم "مضطرون" إلى تأييد "حماس" بسبب الوضع في غزة، من منطلق أنها حركة مقاومة وأن سقوطها نهائياً يعني سقوط آخر حصن من حصون مجابهة إسرائيل.
وفي الوقت نفسه زادت الكراهية والمعارضة للتيار وللحركة باعتبارها "السبب في ما آلت إليه الأوضاع بالقطاع، وتعسف وتعنت إسرائيل وحلفائها في ما يصفونه باقتناص الفرصة وتصفية ملف القطاع مرة واحدة وإلى الأبد"، بحسب ما يقولون.
وعلى رغم ذلك، فإن التوجه الشعبي العام الواضح بين المصريين ما زال رافضاً للتهجير مع اختلاف الأسباب، وفي الوقت نفسه داعماً لحق الفلسطينيين ومتضامناً معهم في مصابهم الجلل.
وهذا التوجه الشعبي يتسق تماماً مع ما ورد في بيان الهيئة العامة للاستعلامات الذي أشار إلى أن "مصر لم تكتفِ برفضها القاطع والنهائي لمشروع التهجير المطروح منذ بدء العدوان على غزة في المسارات السياسية والدبلوماسية، بل أعلنته عالياً وصريحاً منذ الساعات الأولى لهذا العدوان على لسان قيادتها السياسية، ملزمة نفسها به أمام شعبها والعالم كله، ومتسقة مع أمنها القومي والمصالح العربية العليا، ومحافظة على القضية الفلسطينية، ومؤكدة على مبادئ سياستها الخارجية التي تقوم على الأخلاق والرفض التام لأن يكون لاعتبارات ’المقايضة‘ أي تأثير عليها".
الـ"كيبورد" المقاوم
وجود أصوات أو تغريدات وتدوينات يطالب أصحابها عبر الـ"كيبورد" ومن خلف الشاشات بفتح الحدود وتذليل الطرقات وإتاحة فرصة المقاومة، وبعضها مصحوب بأسئلة استنكارية "أين الجيش المصري؟"، وأخرى استفزازية من قبيل "ولماذا يتسلح الجيش إذاً؟" و"أين العروبة؟" و"أين تضامن المسلم مع أخيه المسلم؟"، وغيرها، دفع المصريين هذه المرة إلى التفكر قبل التفاعل، والتدبر أثناء دق الـ"لايك" وبالطبع الـ"شير".
مثل هذه المطالبات والأسئلة عادة تظهر كلما احتدمت أمور القضية الفلسطينية، وأبرزها شهدته مصر خلال عامي 2012 و2013 أثناء حكم جماعة "الإخوان المسلمين" ومن بينها ما شهدته باحة مسجد الأزهر حين ردد مصلون عقب صلاة الجمعة هتافات مثل "الشعب يريد تحرير فلسطين" و"على القدس رايحين شهداء بالملايين" و"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود" وغيرها.
وعلى رغم الدعم الكامل من قبل جماعة "الإخوان" التي كانت حاكمة لمصر حينئذ والعلاقات الأخوية والحميمة والمتقاربة بين الجماعة في مصر وحركة "حماس" وقتها، فإن المتظاهرين والهاتفين لم يزحفوا إلى فلسطين، أو يتقدموا صوب القدس، لا شهداء ولا أحياء، ولا بالملايين أو حتى بالعشرات.
وقتها أكدت تقارير صحافية سفر عدد من شباب "الإخوان" من المصريين إلى سوريا لدعم فصائل مسلحة كانت تحارب النظام عقب الفعالية المثيرة للجدل عام 2013 التي أطلقت عليها الجماعة مسمى "مؤتمر الأمة المصرية لنصرة الثورة السورية"، وأطلق خلالها الرئيس الراحل محمد مرسي هتاف "لبيك يا سوريا"، لكنه لم يعمم الهتاف ليشمل فلسطين.
والمثير أن مصريين يعاودون النقاش حول هذه الفعالية، متسائلين عن سر دعم الثورة السورية من قبل الجماعة والامتناع عن الدعوة إلى "تحرير فلسطين" أو حتى الصياح "لبيك يا فلسطين".
الطريق إلى هناك
وعلى هامش أجواء النقاش والخلاف والاتفاق المهيمنة على أحاديث المصريين حول التهجير والوضع في غزة وانعكاساته على مصر، نشرت صفحات الـ"سوشيال ميديا" التابعة لصحيفة مصرية سلسلة من المحتويات التي أثارت جدلاً بين سخرية ودعم واعتراض، من بينها تعليق "ميمز" ساخر يقول محتواه "مصر تفتح المعبر، تبقى (تكون) مشاركة في التهجير. تقفله، تبقى بتحاصر إخواتنا. ترسل مساعدات، يقولوا مش (ليست) حلوة. ولو قالت نحارب، يقولوا السيسي هيضيعنا (سيلحق الضرر بنا). طيب مش هنحارب، يقولوا أومال بتشتروا سلاح ليه؟".
وسلسلة من الصور المصحوبة بكلمات وتعليقات تحمل دفاعاً عن القيادة السياسية المصرية من جهة، وتنقل جانباً كبيراً مما ينطق به الشارع من جهة أخرى، من صورة لجنود مصريين مصحوبة بتعليق "اللي عايز يجرب، يقرب"، إلى أخرى لجندي مصري يرفع علم مصر على هضبة، مع جملة "ليه مصري ممكن يزعل (يغضب) حين نقول مصر هي القضية؟ وليه مصري يزعل حين نقول مصر مش هتحارب إلا للدفاع عن أرضنا؟" وغيرهما كثير.
لكن أكثر ما أثار الجدل تدوينتين، الأولى عنوانها "اللي (من) يقول افتحوا لنا المعبر، نريد أن نحارب، هذه طرق أخرى للوصول إلى إسرائيل. ولو محتاج مساعدة، أترك اسمك في تعليق وسندعمك"، مصحوبة بشرح وافر لطرق السفر، وجميعها ينضح بمعانٍ سياسية وإسقاطات لا مجال للبس فيها. "من هنا لسوريا، ومن هناك للجولان، طريقك سالك، وقبل الجولان، ستجد إسرائيليين في جنوب دمشق. من هنا للبنان، ومن هناك للجنوب، ستجد أيضاً إسرائيليين، ودي (هذه) فرصتك يا معلم. من هنا للأردن، ومن هناك تقدر تعدي الحدود. ولو الموضوع صعب، افتكر دائماً إن الجهاد يستحق التعب يا بطل".
والثانية كانت إضافة إلى الأولى، وورد فيها "فضلاً عن الطرق البرية التي عرضناها، أضف إلى معلوماتك أنه يمكن الذهاب إلى إسرائيل بحراً"، مع صورة لشخص يسبح.
وفجرت هذه التدوينات مزيداً من النقاش بين مؤيد لمقاصد الصحيفة ومعارض لها، مع قلة قليلة انغمست في نقاش ثانوي يتعلق بدور الصحافة ومهمة الإعلام.
عن اندبندنت عربي | أمينة خيري