بقلم: كميل خجسته
لماذا، حتى في ذروة هجمات الكيان، كان أغلب الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة يعتقدون بأن قرار حماس بالهجوم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان صحيحاً؟ تمّ إجراء هذا الاستطلاع من قبل معهد «بيو» المرموق. البعض يتساءل ماذا كان سيحدث لو لم يكن «طوفان الأقصى»؟ ما الفرق بين صباح وقف إطلاق النار وصبيحة ما قبل «الطوفان»؟
- إنهاء الموت التدريجي المتمثّل في النسيان: لقد كانت غزة تحت الحصار منذ عام 2007. وكان الحصار بمعنى فرض قيودٍ صارمة من قبل إسرائيل ومصر على دخول وخروج الأشخاص والبضائع والموارد الحيوية إلى قطاع غزة. حتى إنّ المرضى كانوا يواجهون العقبات الإدارية والأمنية لتلقّي العلاج خارج غزة.
ووفقاً لتقارير المنظمات الدولية، أدّى الركود الاقتصادي الحادّ، وزيادة البطالة، وانتشار الفقر على نطاق واسع في غزة، إلى اعتماد أكثر من 80% من سكان القطاع بشكلٍ كامل على المساعدات الإنسانية. وحتى نظام الوصول إلى مصادر المياه والكهرباء والوقود في غزة، كان يخضع للكثير من القيود، إلى حدّ أنّ عدّة مناطق لم تكن تحظى بالتيار الكهربائي إلا بضع ساعات في اليوم. كما واجهت أنظمة الرعاية الصحية مشاكل خطيرة بسبب نقص الكهرباء والأدوية والمعدّات. وقد ذكر تقرير «اليونيسف» الصادم للفترة 2022-2023 بعنوان «الأطفال في غزة: جيل معرّض للخطر» أن 68% من الأطفال في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويعاني الكثير منهم من سوء التغذية بسبب الفقر المدقع. كما أنّ أكثر من 50% من أطفال غزة يعانون من مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب بسبب الحروب المتكررة وظروف الحياة الصعبة.
والآن، قد جاء «طوفان الأقصى» بهذه المنطقة المحاصرة المنسيّة التي يبلغ عدد سكانها مليوني شخص إلى صدر الأخبار العالمية لتحتلّ العناوين الأولى. وما بين الموت التدريجي والنضال من أجل الحرية، اختارَ الفلسطينيون الخيار الثاني.
- تعزيز الاحتلال والاستيطان: عام 2023، زاد النظام من بناء المستوطنات واحتلال وتهجير سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية. هذه النسبة ازدادت 30% مقارنة بعام 2022. وبلغت اعتداءات المستوطنين على القرى الفلسطينية وقتل الفلسطينيين وجرحهم 200 اعتداء سنوياً. ولهذا السبب، نفّذت حماس عملية «سيف القدس» قبل «طوفان الأقصى» و«وحدة الساحات» من قبل الجهاد الإسلامي، وتمّ تنفيذ العديد من العمليات الاستشهادية في الضفة.
- هدم المسجد الأقصى: هذا التهجير للفلسطينيين في القدس الشرقية والضفة الغربية، وعدم إعطاء الفلسطينيين تراخيص لبناء واستخدام المنازل، كان ذلك جزءاً من سياسةٍ أخرى؛ تهويد القدس وصولاً إلى هدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه. وفي أول تصريح له بعد «الطوفان»، قال محمد الضيف، مهندس «طوفان الأقصى»، في إشارة إلى إجراءات نتنياهو ووزيره بن غفير، إن «الصهاينة كثّفوا اعتداءاتهم على المسجد الأقصى وكسروا حرمة هذا المكان المقدّس. وتعرّضوا مراراً وتكراراً للنساء الفلسطينيات اللاتي كنّ يعتكفن هناك دفاعاً عن المسجد الأقصى، بالضرب والشتم، وكان لهم السلوك نفسه مع كبار السن والأطفال والشباب الفلسطينيين، ومنعوا أهلنا من دخول هذا المكان المقدّس، بينما فتحوه أمام الصهاينة المتطرفين لمواصلة تدنيسهم للمسجد الأقصى باعتداءاتهم اليومية وممارسة طقوسهم التلمودية هناك بينما يرتدون ملابس الكهنة، ويمارسون شرورهم. وهم لا يتردّدون في التعبير عن قرارهم بشأن إنشاء معبدهم الخاص على أنقاض معراج نبيّ الإسلام الأكرم (ص). يقومون بإحضار الأبقار الحمر إلى باحة المسجد الأقصى ليحرقوها ويرشوا الماء الذي صبّ رمادها داخله في هذا المكان المقدّس، تعبيراً عن قرارهم بهدم المسجد وبناء الكنيس الخاص بهم. يتجرّأون على إهانة رسول الإسلام الأكرم داخل باحات المسجد، وتمزيق المصاحف، ويدخلون مع الكلاب هذا المكان المقدّس».
- عملية الأسر: اعتقلت إسرائيل وسجنت 2000 فلسطيني، بينهم أطفال ورجال ونساء، في النصف الأول من عام 2023 قبل «طوفان الأقصى». وتتكثف عملية الاعتقال يوماً بعد يوم. هذا عدا عدد الأسرى الذين ظلوا لسنوات طويلة في أسوأ الظروف. والآن سيؤدّي «طوفان الأقصى» إلى إطلاق سراح عدد كبير من هؤلاء الأسرى.
- ممر «أيمك» (IMEC): ممر «أيمك» الاقتصادي كان ممراً مهمّاً هدفه بناء طريق عبور مهم من خلال تجاوز مضيق هرمز الذي يمرّ عبر إيران، والصين وروسيا. ويُعدّ الممر الذي يربط الهند – السعودية – إسرائيل – قبرص – أوروبا مشروعاً استراتيجياً كبيراً للكيان الصهيوني، له الأثر الكبير على التنمية التجارية والاقتصادية في هذه المناطق. وكانت إسرائيل ستصبح جسراً لانتقال التكنولوجيا والمعلومات وكذلك تسيطر على التحركات اللوجستيّة في المنطقة. وكانت إيران ستفقد ميزة كونها عنق الزجاجة الاقتصادي لتجارتها الدولية وكانت ستواجه تحديات اقتصادية كبيرة جديدة. ومن ناحية أخرى، فإن أمن النظام كان سيرتبط بالاقتصاد الأوروبي، ويتم تحديد العلاقة بين الغرب والنظام في طبقاته الاقتصادية الحيوية. لكنّ «طوفان الأقصى» بدّد كل أحلام «الأيمك». وأعلن نتنياهو، في خطابه في الأمم المتحدة، فشل «أيمك» من خلال إظهار خريطة الممر ومقارنتها بخريطة محور المقاومة.
- المسمار الأخير في التطبيع: كانت المملكة العربية السعودية لم تلتحق بعد بقافلة التطبيع. وقد كانت على مشارف التطبيع. انضمّت السعودية إلى الدول المطبّعة حين اتخذت قرار الوقوف في صفّ مشروع ممرّ «أيمك»، وهذا كان ما عبّر عنه خالد مشعل خلال حديثه عن التطبيع قائلاً: آخر مسمارٍ في نعش القضية الفلسطينية. وباتت غزة المحاصرة، والضفة المحتلة، موضوع صفقة الدول العربية، واليوم مع «طوفان الأقصى»، لم يعد بإمكان أيّ دولة عربية أن تخلق جوّاً من التطبيع.
قبل «طوفان الأقصى»، كان الاحتلال في غفلته يمنّي النفسَ في حلم اليقظة بمشروع «أيمك»، وهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان على أنقاضه، وطرد الفلسطينيين من غزة والضفة واستكمال مشروع التطبيع، وفي الصباح التالي لـ«طوفان الأقصى»، لم تتحطم تلك الأحلام فحسب؛ بل لقد فقدت إسرائيل الركيزة الكبرى لحفظ وجودها وهي «الردع». ولم يقتصر الأمر على أن أيّاً من عناصر الردع لدى النظام لم يعمل في بداية «طوفان الأقصى»، بل إنّ الجدار الذكي وجيش «الشاباك» و«الموساد» والقبة الحديدية كلّهم لم يتمكّنوا من التعامل مع عملية حماس وهكذا تمّت عملية «الطوفان» بنجاح. وبعد ذلك لم يتمكّن الجيش ولا قوات الأمن الإسرائيلية من العمل بأي من التزاماتهما مع استمرار أحداث «الطوفان». لقد ارتكبوا الجرائم، لكن لم يتمكّنوا من القضاء على حماس، بل إنّهم تفاوضوا معها في النهاية. وبقيت غزة في أيدي فلسطين وحماس، وحتى محور فيلادلفيا سوف تسلّمه إسرائيل لحماس. والآن الكيان مضطرٌّ إلى مبادلة أسراه في غزة بأسرى فلسطينيين، خلافاً لالتزامات نتنياهو، وذلك ضمن صفقة وليس تحت نيران الحرب.
واليوم، لقد عادت فلسطين المحاصرة والمنسيّة، إلى عناوين الأخبار، لدرجة أن بلينكن في خطابه الأخير بوزارة الخارجية اتُّهم بأنه وزير خارجية الإبادة الجماعية، وفي الجامعات الأميركية هناك صرخة فرح مع خبر وقف إطلاق النار، والكيان فقد الشرعية التي بناها لنفسه من المحرقة.
الانشقاق الداخلي في الكيان يتّسع. عدد الاستقالات داخل مجلس الوزراء انعكاسٌ جديدٌ للانشقاقات الجديدة التي تضاف إلى مجتمع الصهاينة المحتلّ. الآن يفرح الشعب الفلسطيني ومحبّو المقاومة من هذه الأحداث. لكن هذا كلّه لا يعني النهاية. بل إنّ هذه المرحلة هي جزءٌ مهمٌّ من مواجهات المقاومة مع المحتل وأميركا، من أجل الوصول إلى النظام المستقبلي ورسم الحياة المطلوبة... هذا ليس كلّ شيء.
* كاتب إيراني