بقلم: مصطفى الفقي
عوامل متعددة وأحداث صاخبة أدت إلى تغييرات جذرية وتحولات واضحة في الهيكل العام للبنية الجيوسياسية داخل الشرق الأوسط، فأصبحنا بحق أمام حال جديدة ما زالت الثوابت فيها جامدة ولكن التحولات ظاهرة أيضاً.
نناقش ضمن هذه السطور أهم الأحداث المؤثرة في أسعار بورصة الدول وفقاً لما جرى ويجري خلال الأشهر الماضية، إذ إن أحداث غزة ولبنان وبعدهما سوريا وتأثير الأوضاع في كل منها على تركيا وإيران هي كلها مؤشرات كاشفة حول التعقيدات التي تحيط بالشرق الأوسط والمشرق العربي، وصولاً إلى تخوم غرب آسيا. فقد تغيرت المعايير وتبدلت الموازين ودخلت القضية العربية الأولى وهي القضية الفلسطينية المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط إلى نفق طويل يوحي بأننا في البدايات، على رغم أن كثراً يتوهمون أننا في النهايات، وفي ظني أن الأمر يقتضي عند دراسة الخريطة السياسة للمنطقة أن نضع الاعتبارات الآتية في الحسبان...
أولاً، لا يمكن دراسة ما جرى وما يجري من دون ربطه بالجذور التاريخية لمحورين كبيرين، أولهما الحركة الصهيونية والتبشير بميلاد الدولة اليهودية، وثانيهما تأمل الانطلاق التاريخي لحركة الإسلام السياسي وتأثيرها في ضوء الأحداث التي جرت منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ إن القراءة الموضوعية لما جرى تؤكد أن الهوة واسعة بين أطراف الصراع بدليل أننا نحلم بحدود 67 ونتطلع إلى الوضع داخل غزة قبل عام 2023، ونكتشف فوراً أن مؤشرات البورصة في تراجع واضح بالنسبة إلى الوضع العربي.
لا شك أن الأمة العربية بأوضاعها الحالية تمر بواحدة من أصعب المراحل في تاريخها الحديث، حتى إن حدود بعض دولها مهددة ووجود بعض آخر موضع أطماع لقوى شريرة رأت أن الظروف مواتية لإحداث تغييرات كبرى في المنطقة، يكون من نتائجها تصفية القضية الفلسطينية أو تحويل عناصرها إلى ملفات إدارية لا تخضع لمستوى سياسات الإقليم.
وإذا كنا نتباكى على الفرص الضائعة في الماضي البعيد والقريب أيضاً، فإننا يجب أن نعترف بأن كثيراً من المواقف العربية انطلقت من دوافع عاطفية أو ظروف مرحلية لا تعطي ذلك القدر المطلوب الذي يكفل الحد الأدنى للمحافظة على الثوابت العربية، فازدادت إسرائيل شراسة وازدادت تركيا أطماعاً وازدادت إيران غموضاً، حتى أصبحنا أمام تركيبة معقدة لا يسهل فك رموزها.
ثانياً، إن اختلال الظروف التاريخية بالأسباب السياسية والدوافع الدينية تجعل القضية أكثر تعقيداً، بحيث لا يمكن تصنيف مواقف الدول بصورة حدية التوصيف قطعي الدلالة فالدولة (أ) مع الدولة (ب) في قضية معينة، ولكنها قد تكون على النقيض منها تماماً في قضية أخرى، فلم يعد الاتفاق أو الخلاف تعبيراً عن التحالف السياسي أو انسجام المواقف الإقليمية.
ثم جاء الطوفان الأميركي الذي يحمله من جديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الذي يتعامل مع الخريطة الدولية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من سلطاته المفتوحة وهيمنته المطلقة، ويوحي بأنه يعيد رسم خريطة العالم ويهز التحالف التقليدي بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ويفتح ملفات تحوي أطماعاً أميركية في دول أخرى، والعالم يرقب ما يحدث في دهشة واضحة وقلق شديد.
بل إن الداخل الأميركي ذاته لم يخل من القلق السائد والتوقعات المتشائمة، ذلك أن الإدارة الأميركية الجديدة تسعى إلى تحسين العلاقات مع روسيا الاتحادية وربما الصين وكوريا الشمالية أيضاً، وذلك على حساب التحالف التقليدي الذي ربط واشنطن بغرب أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى يدهش المرء متسائلاً أين مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون المتألقة بالحرية وحقوق الإنسان، والتي برزت بعد الحرب العالمية الأولى ولم يعد لها حالياً وجود يذكر، فقد تغيرت أميركا وتطورت أوروبا وتحولت السياسات العالمية من ثنائية الأطراف إلى أحادية الأقطاب.
ثالثاً، كشفت الأحداث الأخيرة داخل الشرق الأوسط عن ذبذبات قوية في بورصة الدول وأسعارها، فلقد خرجت إيران خاسرة إلى حد كبير بدءاً من إضعاف "حزب الله" حليفها القوي في المنطقة العربية مروراً بما جرى في سوريا، والذي يكاد يكون طوفاناً آخر أو زلزالاً هز المنطقة كلها على غير توقع بسقوط النظام الحليف لطهران وبروز قيادات جديدة يحفل تاريخها بمنعطفات تستحق التأمل وتستدعي التفكير، إضافة إلى أن إضعاف حركة "حماس" يعني مباشرة تأثيراً سلبياً على الوجود الإيراني أيضاً ربما بدرجة أقل من تراجع "حزب الله"، ولكنها إخفاق للسياسة الإيرانية خلال العقود الخمس الأخيرة.
أما تركيا على الجانب الآخر فهي لاعب متحرك في حدوده مع سوريا والعراق وغيرهما من مواقع احتشاد الميليشيات ذات التوجهات المختلفة، فإننا نزعم أن الاستقرار لن يكون قريباً داخل ذلك البلد الآسيوي الأوروبي المهم نتيجة التداخلات المعقدة في التركيبة السياسية هناك. وتطل علينا بين حين وآخر تحولات في سياسة أردوغان تبدو انعكاساً تلقائياً للأوضاع الداخلية في بلده الأوروبي الآسيوي الشرق أوسطي المسلم، صاحب العلاقات ذات الخصوصية مع واشنطن فضلاً عن كونه عضواً في حلف شمال الأطلسي. وبقدر سعادة أنقرة بما جرى داخل دمشق إلا أنها لا تستطيع حتى الآن اتخاذ موقف قاطع في علاقاتها مع الأكراد والأقليات غير العربية في المنطقة، فضلاً عن الميليشيات التي دعمتها تركيا من قبل واكتوت ببعض نيرانها في ما بعد.
إننا نسجل هنا أن إسرائيل هي الرابح الأكبر لكل جرائمها العنصرية والعدوانية، ونزعم أنها حاولت انتهاز نتائج السابع من أكتوبر 2023 بمثل ما حاولت واشنطن استثمار أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، عندما اتخذت الولايات المتحدة من تلك الأحداث الأميركية مبرراً للعبث في خريطة المنطقة والتقليب في أوزان الدول على مسرح الأحداث، وهو نفس ما يجري حالياً من محاولات توظيف ما جرى لخدمة أهداف إسرائيل ومواصلتها الخروق الفاضحة للقانون الدولي وحقوق الإنسان فضلاً عن غياب القدرة على التفاهم المشترك، فقد فقدت إسرائيل –على رغم أنها رابح واضح– قدراً كبيراً من حلفائها وأصدقائها في العالم وداخل المنطقة التي تعيش فيها وتتطلع للبقاء وسط شعوبها، إذ تيقن الجميع أن إسرائيل لن تكون أبداً عضواً مقبولاً داخل الشرق الأوسط خصوصاً بعد جرائمها في قتل الأطفال والنساء والمدنيين من دون مبرر، ولكن لسبب واضح لا يخفى على أحد وهو رغبتها في إخلاء الأراضي الفلسطينية لكي تكون موطناً جديداً لحشد يهودي قادم إلى الأراضي العربية، على حساب شعوبها وعلى مسمع ومرأى من العالم كله.
رابعاً، لم تعد المسألة خلافاً على حدود ولكنها أضحت صراعاً على وجود، فقد كشفت إسرائيل بوضوح عن المخطط الصهيوني الذي تمضي فيه وفقاً لمشروع يمتد عمره لما يقارب قرناً ونصف قرن من الزمان، وإسرائيل تقوم بعملية إعداد لما يمكن تسميته التمكين لدولة صهيونية عنصرية تكرس خطاب الكراهية وتضرب التعايش المشترك في المنطقة لمصلحة أهوائها ومخططاتها الخبيثة في ظل ظروف دولية مواتية، وبخاصة أن إدارة ترمب الأميركية هي أكثر إدارات الولايات المتحدة الأميركية تطرفاً في دعمها لإسرائيل حتى يكاد نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل وكأنما أصبح رئيساً لوزراء الولايات المتحدة الأميركية أيضاً، إذا جاز ذلك التوصيف الذي لا وجود حقيقياً له، ولكنه تأكيد على سطوة "الليكود" الإسرائيلي واليمين المتطرف والموقف المتشدد الذي يلعبه حكام تل أبيب على نحو لم نشهد له نظيراً من قبل، حتى أصبحت القضية هي عدوان إسرائيلي أميركي على شعب فلسطيني أعزل كل جريمته أنه يرفض الاحتلال ويسعى إلى التعايش المشترك وفقاً لقواعد العدالة الدولية وحقوق الإنسان، فضلاً عن الشرعية التي يجب أن تلتزمها الدول مهما كانت الأحلام والأوهام والمغامرات العسكرية والمخططات الصهيونية.
نقول في النهاية إنه لن يصح إلا الصحيح، وسوف تثبت أسعار بورصة الدول كل هذه الحقائق ذات يوم.
عن اندبندنت عربي